في انتظار الشهيد الأخير
حدث عام ٢٠١١.. الشهيد الأول في قريتنا.. ربما لم يكن الشهيد الأول، وربما لن يكون للقصة التي سأرويها وقع على جميع من سيقرؤها كما كان لها وقع كبير على قلوب أفراد أسرتنا، لكنني على يقين أن كل أسرة في هذا البلد المعطاء عاشت ظروفا مشابهة. كل أسرة كان لها حكايات مع هذه الحرب الظالمة التي، وإن مرت بالقرب من منزلنا، إلا أنها تجاوزته، ودخلت منازل أخرى، وعاثت في قلوب أفرادها حزناً ودمعاً لا ينتهيان.
أخي الكبير والوحيد قلما يسافر إلى القرية، إنه لا يرى أي فائدة يجنيها من هذه الزيارة، فقد اعتاد العمل أو الدراسة في المدينة، ولهذا فإن المرات التي يقرر فيها السفر إليها، تكون أمي في غاية السعادة، وعلى الرغم من أنها تكون قد وصلت إليها قبله بفترة، إلا أنها ترى أنها وصلت في لحظة وصول ولدها الوحيد، وأن العطلة ابتدأت الآن حقاً.
لم يكن يزعجنا ذلك نحن الفتيات، فقد كان وجود أخي يجعلنا جميعاً في قمة السعادة حقاً، وهذا ما كان في يوم ٣٠ تموز عام ٢٠١١، فقد كانت أمي تذرع المطبخ جيئة وذهاباً وهي تحضر الطعام الذي يحبه أخي، ولا تعرف ماذا ستفعل لأجله أيضاً، وكنا نحن نساعدها، حينما اتصل أخي ليخبرها أنه قد يتأخر قليلاً، بسبب تأخره عن الحافلة التي حجز فيها بسبب صديق صادفه في طريقه، الحافلة التي حجز فيها كان فيها أيضاً بعض شبان قريتنا قادمين إليها في فترة العطلة.
عبّرت أمي عن امتعاضها، فهي تريده أن يصل في أقرب وقت ممكن، ولكنها رضخت للأمر الواقع وطلبت منه إخبارها حالما تنطلق الحافلة الأخرى التي سيسافر بها حقاً.
وهكذا.. وصل أخي ظهراً بعد سفر طويل بسبب الأوضاع الأمنية في الطريق، خاصة أن الحافلات المسافرة اضطرت في تلك الفترات إلى تغيير طريقها بسبب وجود الإرهابيين في القرى التي يمر منها طريق السفر، ولكن- كما روى أخي لنا- فإن الحافلة التي جاء فيها لم تغير الطريق، ومرت كما سابقتها “التي كان من المفترض أن يكون فيها”، ومرت هي الأخرى عن طريق الحولة، وأن سائق الحافلة حاول العبور ببطء حينما وصل إلى الحولة، وأطلق العنان لزمور حافلته لينطلق في المنطقة، وهذا ما أثار دهشة الركاب الذين لم يكن همهم إلا الوصول إلى منازلهم بأمان، والحمد لله وصلوا بكل خير.
عصر ذلك اليوم، كنا نجلس على سطح المنزل كلنا في جو هادئ تتخلله نسمات عذبة، لكنّ حركة غير اعتيادية لفتتنا في الحارة، كثير من الجيران يقصدون بيت جارتنا أم هيثم.
سألت أمي “سعاد” إحدى الجارات المتجهات إلى هناك، وقد بدت اللهفة واضحة على ملامحها، فأخبرتها أن هيثم قد أصيب، وأنهم ذاهبون للاطمئنان عليه، وأردفت سعاد أن ابن جارتنا الثانية مصاب أيضاً، فقد كانوا في الحافلة عينها حينما هاجمهم الإرهابيون.
كنت أشاهد اللهفة في عيني أمي كما شاهدتها في عيون الجيران الذين توافدوا إلى بيت الجارة أم هيثم.
عادت والدتي من منزل الجارة بعين دامعة وقلب حزين، وأخبرتنا أنها ستذهب أيضاً إلى منزل جارتنا “سعاد” فقد استشهد زوجها من بين عناصر الجيش الذين اتجهوا إلى التصدي للإرهابيين وحماية الحافلة التي كانت في طريق مرورها من “الحولة”.
كان الحزن الأكبر أن جارتنا سعاد ذهبت لتواسي أم هيثم بإصابة ولدها، وهي لا تعلم أن زوجها دافع حتى الموت ليعود هيثم إلى أهله مصاباً فقط، لا شهيداً، كما عاد هو.
نسيت أن أخبركم أن أولاد الجيران الذين أصيبوا جراء اعتداء الإرهابيين على حافلتهم كانوا في الحافلة التي حجز فيها أخي أولاً، واضطر إلى ركوب أخرى نتيجة تأخره وانطلاقها من دونه.
كان الشهيد سجيع زوج “سعاد” الشهيد الأول في قريتنا، ولا نزال منذ ذلك اليوم نزف الشهداء تباعاً، ونصلي لله أن يكون الشهيد الأخير، كما صلوات جميع القرى السورية.. ولا نزال.. في انتظار الشهيد الأخير.
مادلين جليس