ضبوا الشناتي.. استشراف درامي للمستقبل أم تمهيد له؟
يُعرض الآن على واحدة من قنواتنا المحلية، مسلسل “ضبوا الشناتي”، -ممدوح حمادة-الليث حجو-العمل ينتمي بقوة إلى تلك الفترة من عمر الحرب، وبين عامي 2013 و2014، كانت الحرب في أقسى حالاتها على البلاد، الآن وقد بدأت تضع أوزارها، يمكن قراءة تلك التجربة الفنية من مسافة زمنية، قد تجعل الرؤية أوضح. المسلسل متصل منفصل وهو يروي حكاية أسرة سورية، تريد مغادرة البلاد هربا من ويلات الحرب، وذلك بعد أن قام الابن التاجر”سلام” –أحمد الأحمد- بإقناع العائلة بالرحيل، لكن شرطا ستضعه الأم “ضحى الدبس- أم عادل” يعوق أو يؤجل خطته، وهو أنها لن تغادر ما دام أحد أفراد أسرتها سيبقى هنا، وبعد أن يلتئم شمل الأسرة، وتقرر أنها تريد الرحيل، تحصل مفارقات يومية، تحاول أن تفتعل لمسة كوميدية على التراجيديا الحقيقية التي يضمرها العمل، لتأجيل الرحيل من خلال تفاصيل يومية تحول دون ذلك طيلة الحلقات الثلاثين؛ الكوميديا لم تكن موفقة بالعمل، وهذا ما دعا القائمون عليه إلى وصفه بالـ “ميلودراما”، بعد أن كانوا قد قالوا عنه أنه عمل “كوميدي” أثناء تنفيذه!.
في كل حلقة تبدأ مشكلة أو تفصيلة، أو قصة، تنتهي بنهايتها، ضمن السعي العام إما للمغادرة أو إقناع غير المقتنع بالمغادرة، الفكرة لم تكن واضحة تماما في العمل ولهذا كانت أغنية الشارة (أداء كارمن توكمه جي، كلمات وألحان إياد الريماوي) عنصرا مساعدا لتوضيحها، كلمات الأغنية تقول “سفرنيّ ع أيّ بلد ونساني/ بالبحر ارميني ولا تسأل ما عندي طريق تاني/ مو طالع شم الهوا ولا رايح غير جو/ بيتي بالضرب هوا ودخان الحرب عماني/ اتركني حاول مهما كان/ أنا بالآخر إنسان/ سميها نزوح أو لجوء إنساني”.
المشكلة في “ضبوا الشناتي”، وظهوره بمستوى أقل من “ضيعة ضايعة والخربة”، هو أن المسلسلين الأخيرين، يحدثان في واقع خيالي، لا علاقة له بزمن محدد، ويمكن لأي من المسلسلين أن يحدث في الخمسينيات أو العشرينيات مثلا، وهكذا يمكن للكاتب المهاجر أن يستند على ذاكرته؛ ولكن في “ضبوا الشناتي” المرتبط بزمن محدد وتفاصيل الحرب المعروفة، فالذاكرة لا تجدي هنا، حتى وإن تواصل الكاتب مع أحداث البلد عبر مواقع التواصل، فهو يبقى تواصلا افتراضيا، ليس حقيقيا ولا يحيا هموم الناس، على الأقل من باب، أن الكاتب لا يعاني معاناة الشخصيات، وهو على بعد آلاف الكيلومترات عن جغرافيتها.
العنوان الذي يأمر السوريين بأن “ضبوا الشناتي”، ثم كلمات الأغنية التي تشرح لماذا يجب أن “يضبوا الشناتي” ويغادروا، لا يمكن فهم مبرراتها، فكيف لعمل فني أن يدعو لـ “ترانسفير” جماعي وإخلاء للبلاد من أهم مكوناتها وهم الناس، الأغنية تبرر ذلك بقسوة الحرب، وتطلب من الناس أن يفعلوا ذلك من غير تردد أو تفكير، حتى وإن غرقوا في البحر؛ السؤال الأخلاقي الذي يُطرح على القائمين عليه: الذين بقوا في البلاد، كيف وجدوا “طريق تاني”، غير ذلك الذي يدعوهم إليه “ضبو الشناتي”؟.
الأم برمزيتها، وبتجسيدها للبلاد وللمواطن الذي لا يريد أن يهاجر وأن يترك بلاده وأن يقاوم قسوة العيش خلال المحنة، الجميع يعمل على إقناعها بالفكرة، حتى ترضخ مع الشرط الذي تضعه، وهي محاولة لإقناع المعترضين في الواقع، من نماذج يمثلها متلق قد لا يكون مقتنعا بالهجرة أساسا، كمعلمة في صف، أو خباز في فرن، أو موظف حكومي يُسير مصالح الناس، أو أي أحد تشكل هجرته –حسب أوامر المسلسل-نزف حقيقي للبلاد في أبنائها، وهو نزف أدمغة ونزف أيدي عاملة، بل حتى وروح اجتماعية كاملة، وفق المسلسل جميع شخصيات الأسرة التي تعبر عن المجتمع، تقتنع وتغادر، لا شخصية يجب أن تخالف الكتب!، ضاربا بذلك الواقع عرض الحائط، ومتجاهلا الذين بقوا في البلاد، وسوف ينهضون بها في قادم الأيام.
العمل الذي كان منجزا في عام 2014، وذلك يفترض أن العمل كان تنفيذه جاريا بأواخر العام 2013، وهو تاريخ سابق على شيوع موجة الهجرة واستفحالها، ثم امتلاء وسائل الإعلام بأخبار “الغرقى” من المهاجرين في البحر نزولا عند رغبة أغنية الشارة “بالبحر رميني ولا تسال”، هل كان العمل يتنبأ بالمستقبل القريب؟ أم كان يُحرض عليه؟ وتمهيدا دراميا لـــه؟ ربما يكـــون الاحتمـــالان واردان.
في نهاية العمل تغرق الأسرة، المسلسل يقضي على الجميع، على طريقة مسلسل “ضيعة ضايعة”، ولكن هذه المرة تنجو طفلة تُدعى سيرينا، واسمها هو تحوير لاسم البلاد، فينقذها الأجانب من الأوربيين، وهو خلاف ما قامت به أوربا وما يسمى –أصدقاء سورية-في الواقع، إن أقل ما قام به الأوربيون هو حصار على الأدوية ومعدات المستشفيات، يكفيهم هذا فقط دون الخوض بـ “إنقاذاتهم” الأخرى للسوريين.
“ضبوا الشناتي” أمر عمليات درامي، صدر في أحلك فترة من فترات الحرب، ولم يستجب له الجميع، وبقيت البلاد بأهلها، الذين لن “يضبوا الشناتي” مهما حدث؛ أما عن “الشناتي” التي تُضب في هذه الأيام، فهي”شناتي” التلاميذ وهم يستهلون عامهم الدراسي، “شناتي” فيها كتب ودفاتر وعروسة زعتر حلبي، أو لبنة دمشقية، أما الزيت فيصعب حصره من زيتون أي محافظة ينحدر.
تمّام علي بركات