أرواح صخرات العسل.. العلاقات الإنسانية المفقودة
بعد رواية “قصر المطر” التي كانت بمثابة مفتاح ولج ممدوح عزام من خلاله باب الأدب من أوسع أبوابه لما انطوت عليه من أفكار سجالية.حققت لها رواجا لم تحظ به ما تلاها من أعمال حتى روايته الأخيرة الصادرة هذا العام “أرواح صخرات العسل” التي لم يخرج فيها من أسر البيئة والمكان نفسه المسكون به في سابق رواياته وهو بلدة تتبع محافظة السويداء.
في روايته الجديدة يأخذنا ممدوح عزام في سرد مكثف غارق بتفاصيل وأسماء لا يترك مجالا للقارئ أن يلتقط أنفاسه,إلى قرية المنارة الصغيرة في جنوب مدينة السويداء ومنها يدخلنا في سراديب المتغيرات التي رافقت سنوات الحرب من خلال ثلاثة شبان جمعتهم صداقة قوية من أيام الدراسة الأولى لم يفك عروها سوى الموت.
تبدأ الحكاية من النهاية عندما يستجمع نائل الجرف تفاصيلها, بعد عام من موت ثالث الأصدقاء “عابد الجوف” وذهابه إلى القرية التي جمعت الثلاثة عبر الطريق الملتفة التي كانت تسمى أفعى, مارا بجانب أضرحة عشرة شبان معلقة صورهم على مسلات إسمنتية هم شهداء الحرب من بينهم خالد سيف الدين, وحامد أبو الليل صديقي عابد اللذين جمعتهم به أحلام تصبو إلى عالم ترويه المحبة بمائها العذب. وحياة مشتركة بتفاصيلها وقسوتها,قسوة يعزوها ممدوح عزام إلى أسلوب التربية السائد في مدارسنا,من خلال شخصيتي “برهان العلمي” مدير المدرسة الملقب ب”نبريش” الذي جعل المدرسة صورة عن نبريشه المتعصب,”كانت المنارة تتغذى من روح العنف الذي عممه برهان العلمي, روح النبريش” التي كانت سببا في فشل وتسرب الكثيرين من المدرسة حسب قراءة عزام,الذي رأى أن ثقافة العنف هذه كانت الأزمة إحدى نتائجها, ومن خلال شخصية زيتون أبو طرة بما يمثله من أفكار وتناقضات جسدها في أفعاله المغايرة لشعاراته,والشخصيتين اللتين وجدتا في الأزمة والفوضى مناخا خصبا للتحكم بالعلاقات الاجتماعية وممارسة مفاسدهما.
حكاية الأصدقاء الثلاثة التي يتولى ممدوح عزام مهمة الراوي فيها على لسان نائل الجرف “هي حكاية جيل سرقته الحرب عن ممارسة فعل العيش بكل مراحله وتلويناته دون أن يلازمه هاجس الموت اليومي, وما كانت نبوءة عابد بموته بعد ثمانية أعوام وشهرين سوى واحدة من متلازمات الموت والفوضى التي لاحقت جيلا بأكمله وقد تحققت النبوءة لكن بعد ثمانية أعوام وثلاثة أشهر, نبوءة قد يرى فيها عزام نهاية لمرحلة قاتمة من حياتنا, تطوى معها كل المظاهر السلبية التي ولدت في ظل الحرب وأبعدت خالد سيف الدين عن حبه لهيفاء الكافي ابنة قريته التي غادر اهلها الى المدينة كغيرهم الكثير بحثا عن الامان, فتبعها خالد مع رفيقيه الى المدينة في لقاءت شبه يومية يكرسها طهارة الحب وبراءة السريرة, وكذلك حب عابد لجارتهم هند الخروب رغم العلاقة غير الودية التي تجمعه بأهلها,هذا الحب ذو المقام الروحي العالي. واستمرار عابد في ادارة متجر العطورات و”الاكسسوارات” المشترك مع خالد وحامد. رغم غياب الاخيرين وتقسيمه الربح على الثلاثة كما كان في ظل وجودهما, كذلك في تبني حليمة لعابد كابن لها بعد ان فر من قسوة ابيه,هذه التضحية والحب الذي جمع الثلاثة تحيلنا الى دلالات العنوان “أرواح صخرات العسل” الروح هي استمرار الحياة, والصخرة التشبث بالمكان, والعسل,النحل الذي يعطي الفائدة والصحة للآخرين دون حساب. ثلاثية تلاشت امام تصاعد مشاعر الكراهية والبغض, واصبحت مجرد شواهد في مقبرة ورمز لحب ولد مع نبوءة موت ستكون درسا للقادم من الايام.
السرد المتصاعد والتسلسل الزمني المتتالي عبر تقنية التذكر القائم على استعادة الماضي, ليس وحدهما ما يميز ممدوح عزام,في منتجه الجديد بل ايضا اهتمامه بتفاصيل المكان ومفردات البيئة بكل ملامحها السيكولوجية في تكتيكات اقرب الى الرواية التسجيلية بلغتها التقريرية اكثر منها الادبية,فهو يتجنب الدخول في استطرادات ومنولوجات داخلية لكي لا يضطر لإبراز مقدرة التلاعب باللغة وخلق حالة من الاسترخاء لدى القارئ بدلا من الزخم المتواصل.وهذا مابدا من خلال افتقاد الرواية المقولات الفكرية الكبيرة وبقائها اسيرة لرأي الكاتب السياسي والاجتماعي من الواقع المعيش المحصور ضمن نطاق ضيق فلا يضطر لتحميل شخصياته افكارا فوق امكانياتها العمرية والثقافية.
ارواح صخرات العسل رؤية خاصة تعري واقع مضى, وترسم ملامح مرحلة قادمة تستفيد من عبر الماضي لبناء مستقبل يستكمل ما فاتنا، لعلنا نعوض جيل الازمة ما خسره.صادرة عن دار ممدوح عدوان وسرد للنشر في طبعة اولى.
آصف ابراهيم