دراساتصحيفة البعث

ما لم يقله هنتنغتون

باسل الشيخ محمد
لعل مجريات عالمنا المعاصر تؤكد فكرة صموئيل هنتنغتون في كتابه الشهير “صدام الحضارات” الذي صدر إبان انهيار الاتحاد السوفييتي، خلص الكتاب إلى نتيجة مفادها أن الحضارات على اختلافها ستشهد صراعات على أساس الهويات المختلفة، بما يحمله الاختلاف من تباين فكري، وسياسي، وعرقي، وسوى ذلك من اختلافات.
لا يخفى على اطلاع القارئ أن العلاقات بين شرق العالم وغربه لم تكن طيبة إلا لفترات لا تكاد تذكر، لكن ذلك قد لا يكون فقط بسبب التباينات الفكرية بين الدول الليبرالية من جهة، وسواها من جهة أخرى، حجة مؤيدي الليبرالية في الدفاع عن أنفسهم هي “نظرية السلام الديمقراطي” القائمة أساساً على الاعتمادية الاقتصادية، وأن غياب هذه الاعتمادية سيؤدي إلى تضارب مصالح من شأنه أن يقود إلى نزاعات من نوع آخر، فإن صح هذا، فكيف لنا أن نفسر حالة “عدم التناغم” الاقتصادية حالياً بين الولايات المتحدة ودول ليبرالية، بغض النظر عن تركيا والصين؟.
سؤال شبيه بهذا ربما خطر في بال المرء منذ فترة عن مصدر الخطاب اليميني في فرنسا وألمانيا ودول أوروبية أخرى عرفت بدعمها للعيش المشترك، وعدم التمييز على أساس اللون والعرق أو المعتقد، من أين نبع هذا الخطاب “المتطرف” في الدول “الديمقراطية”؟ ولماذا بتنا نسمع هذا الخطاب في بداية الألفية الثالثة التي يفترض بأنها على طريق تقدم التفكير البشري؟.
للإجابة عن هذين السؤالين سنحاول في البداية قراءة الصورة الأوسع عبر استقراء الاعتمادية من وجهة نظر الإدارة الأمريكية الحالية، لعل دونالد ترامب يعتقد أن النظام التجاري الدولي الراهن لا يحقق للولايات المتحدة الأمن الاقتصادي اللازم بوصفها “قائد النظام الدولي”، خاصة أنه تبيّن على أرض الواقع أن المنافسة التجارية لا تراعي قواعد العدالة، الأمر الذي تسبب في عجز مالي ضخم في الميزانية الأمريكية، وفي ضياع ملايين فرص العمل في الولايات المتحدة حسبما يرى.
محاولة ترامب لتفجير النظام الاقتصادي العالمي المعمول به منذ نهاية الحرب العالمية الثانية هي تنافس على القيادة بينه وبين باقي الدول الليبرالية ذات المبادئ نفسها، وليست صراعاً بين الشرق والغرب.
دعونا نتذكر أن الظروف الاقتصادية والتجارية التي سادت أوروبا في العشرينيات من القرن الماضي كانت، برأي محللين، من بين أسباب ظهور الفاشية والنازية، طبقاً لوجهة النظر هذه، فليس من المستغرب أن يتصاعد صوت اليمين المتطرف في أوروبا، ولعل احتدام المنافسة المرتقب بين الولايات المتحدة وأوروبا سيؤدي إلى تزايد شعبية أحزاب أوروبية يمينية، أوضح الأمثلة على ذلك هو تأسيس منظمة “مكافحة الأسلمة” في مدينة أنفير البلجيكية، تأسست المنظمة عام 2008، أي بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، ملقية باللوم على دخول المسلمين إلى بلجيكا، هذا قبل أن تظهر جماعة “الشريعة لبلجيكا” قبل عامين.
لكن الاقتصاد وحده ليس هو دافع صعود اليمين في الدول الليبرالية، إذ لم تكن هولندا، مثلاً، قد مرت بضائقة مادية العام الماضي عندما ربح حزب “الحرية” الهولندي مئة وخمسين مقعداً في البرلمان، بزيادة قدرها خمسة نواب، ليصبح القوة الثانية في البرلمان الهولندي بعد الليبراليين، لم نسمع أيضاً عن ضائقة مادية ألمت بالنمسا عند الفوز في الموسم الانتخابي الماضي بستة وعشرين بالمئة من الأصوات ليتم عقد ائتلاف مع المحافظين في البرلمان.
ثمة رأي يقول: إن تصاعد الخوف من الإسلام لدى الغرب، إضافة إلى الهجرات الكثيفة إلى أوروبا، جعل الوعي السياسي الأوروبي قلقاً من انتشار أعمال شغب وإرهاب، لكن أعمال الشغب بعد فوز الفريق الفرنسي ببطولة كأس العالم لكرة القدم الماضي لم تكن إسلامية الطابع، ولم تأت على خلفية سياسية، لم تحدث أعمال الشغب على هامش احتفالات فرنسا بعيدها الوطني حين أحرقت مئات السيارات على خلفية إسلامية هي الأخرى، وقبل ذلك لم يكن من إسلامي واحد من بين 2700 موقوف خلال “اضطرابات فرنسا” عام 2005.
إذاً، ما مصدر تصاعد اليمين داخلياً، والتنافس التجاري على مستوى العلاقات الدولية؟.
تفترض الليبرالية أن الطبيعة الإنسانية خيّرة ومتعاونة، أما المحافظون فيرون أن الطبيعة الإنسانية شريرة، وتقييدها بسلطة عليا أمر واجب، بالنسبة للفرضية الليبرالية: الخير نسبي، الخير في نظر ترامب هو فرض ضرائب على كندا الجارة والحليفة، وبالنسبة لفرضية المحافظين: ماذا عن الفساد الضريبي لجيروم كاهوزاك، وزير الميزانية الفرنسي، والاحتيال على معاشات المتقاعدين في النمسا، وفضيحة سيلفيو بيرلسكوني في ايطاليا؟.
وما بين الرأيين المحافظ والليبرالي تضيع فرضية صدام الحضارات، وتضيع معها آراء آدم سميث، وديفيد ريكاردو القائلة بتخصص كل دولة في إنتاج سلعة ما كميزة نسبية تؤدي إلى إنتاج أكفأ، ومعيشة أفضل.. بات الصدام حالياً بين حمائية ترامب التجارية والعولمة، وكلاهما مفهومان غربيان، صحيح أن ترامب أقل من أن يكتشف نظرية اقتصادية، فالحمائية أصلاً تنسب إلى الكسندر هاميلتون، أحد مؤسسي الولايات المتحدة، لكنه لا يعفي أحداً من الضريبة وإلا أعفي الجميع، تلك الضرائب نذير حرب اقتصادية لم تعد بعيدة حسبما يبدو، ويصف ماريو دراجي رئيس المصرف الأوروبي المركزي إجراءات ترامب بقوله: “ما استرعى انتباهي، بغض النظر عن قناعاتك حول التجارة، أنه يجب مناقشتها وحلها في إطار متعدد الأطراف”، تلك الأطراف التي كانت كتلة واحدة تعتقد أن الخطر من خارجها بات نابعاً من داخلها الآن.
بلمحة سريعة على مؤشر تصاعد الصوت اليميني الأوروبي، يبدو أن قوس الدائرة يكتمل ليشير إلى تزايد قوة اليمين داخل أوروبا، وهو أمر غاب عن ذهن منظري الصراعات بين الشرق والغرب، حيث إنهم ألقوا باللائمة على الشرق وحده، وإن لم نكن في وارد إطلاق حكم أخلاقي على أي كان، إلا أن الصراع بين الحضارات يبدو أنه يبدأ على شكل صراع مصالح تنسي مدعي الحضارة ما ادعوه يوماً ما.