الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

شرشف قصب (6)

 

د. نضال الصالح

المدير يحكي، ومحمد يحكي، وبثينة بينهما أشبه بتمثال من الرخام، ولا شيء يتردد في رأسها ويكاد يغادر حنجرتها بصوت يسمعه محمد سوى: “هل تعني ما تقول؟”، وعينا محمد تضيئان بغير إشارة تعني أنْ “نعم” ثلاثاً، ثمّ ما إنْ يغادر المدير المكتب وهو يمدّ يده إليها مصافحاً ومباركاً، حتى تغلق الباب وراءه، وتُهرع إلى محمّد، وتُنهضه من كرسيه وراء الطاولة، وتشدّه، بما أوتيت من قوة، إلى صدرها، وتردّد: “أحبّك” ثلاثاً، فيقول محمّد: “بقي أن يوافق الوالدان الكريمان”، ولم يكد يتم عبارته، حتى أفلتت بثينة جسدها من ذراعيه، وقالت: “ولماذا لا يوافقان؟ أفلا تكفينا هذه الحرب لنتعلّم كيف نكون سوريين وكفى؟”، وتابعت وهي ترسم شارة الصليب على صدرها: “أشهدُ أنْ..”، ولم تكد تكمل حتى سمعت محمداً يقول: “باسم الأب…”، وكان ثمّة، على نافذة المكتب، عصفوران يزقو أحدهما الآخر بالقبلات وما يشبه أغنية للحياة.
فجر الأربعاء، الخامس والعشرين من تموز، نهضت السويداء على أربعة انفجارات بأحزمة ناسفة لأربعة انتحاريين ممّن يُسمّى “تنظيم الدولة”، وتزامنت تلك الانفجارات مع غير هجوم للمئات من “التنظيم” على غير قرية من الريف الشرقي والشمالي الشرقي للمدينة. وبعد مواجهات عنيفة مع رجال الجيش العربي السوري وأهالي تلك القرى بلغت الحصيلة النهائية للهجوم الإرهابي على المدينة وقراها مئتين وخمسين شهيداً ومئة وثمانين جريحاً وعشرات المخطوفين من الرجال والنساء والأطفال.
تيبّست أصابع محمّد على لوحة المفاتيح وهو يبلغ لام الكلمة الأخيرة من الخبر الذي كان ينقله عن أحد المواقع الإلكترونية، وبينما هو غائص، حتى ذروة روحه، في قاع مشاعر مختلطة من الحزن والغضب، قالت بثينة: “هل ستزورنا هذا المساء؟”، ثمّ دفعت إليه بورقة بخطّ يدها كانت نقلتها إليه من كتاب، ورقة تتضمن بيان سلطان الأطرش إلى الشعب السوري في الحادي والعشرين من تموز سنة خمس وعشرين وتسعمئة وألف، فقرأ: “أيّها العرب السوريون تذكّروا أجدادكم وتاريخكم وشهداءكم وشرفكم القومي، تذكّروا أنّ يد الله مع الجماعة، وأنّ إرادة الشعب من إرادة الله، وأنّ الأمم المتمدنة الناهضة لن تنالها يد البغي”، ولم يتمّ القراءة لأنّ بثينة عاجلته بسؤالها من جديد: “هل ستزورنا هذا المساء؟”، فقال: “ما رأيك؟”، فاكتفت بأن أمعنت النظر في عينيه، فأحسّ بخفق باهظ يعصف بقلبه، وما كان منه إلا أن قال: “أفلا يكفي العطر، عيناك أيضاً؟”، فسألت: “عيناي؟”، قال وعيناه تحاولان النجاة بنفسيهما، بل بروحه التي صخبت، عن عينيها اللتين لم يكن انتبه إليهما من قبل: “فتّاكتان”، وتابع: “حدّ القتل”. ولم يكد ينتبه إلى كلمة “القتل” ويستعيد ما كان يقرأ من أخبار عن السويداء، حتى قال: “كم الفرق شاسع يا بثينة بين قتل وقتل!”، وكان يعني ما يعني الموت وما يعني نقيضه الحياة، القتل شهوةً في رؤية الدم، والقتل الذي يعني انبعاث الحياة بالجمال، وردّد بصوت تسمعه بثينة: “عينان سوداوان في جحريهما / تتوالد الأبعادُ من أبعادِ”، ثمّ….. (يتبع).