ثقافةصحيفة البعث

عريش الياسمين

 

ألوان السحب في السماء داكنة، والشمس تطل من فرجات صغيرة, ثم تسارع إلى الاختفاء وأكوام الثرى شديدة السمرة, لأن عليها آثاراً من مطر البارحة، وصاحب الأفكار يحاول الهروب من ذاك المكان ومن ذكرياته التي هاجرت وراءه واعتقلته حيث كان, ودخلت حياته فترة من ظلام كثيف، فلبس الشحوب واعتراه الهزل. شعر أن في داخله كنزاً كان من المستطاع أن يسعد به لو عرف حقيقته, لكنه تأخر فانقلب إلى كنز من الهموم وتنور من الأحزان, بدأت ذكرياته تناوشه والهزيمة تجري في كيانه.. كانت عيناه تشعان ببريق طويل, لم تطرف حتى امتلأ رأسه بكل ما أراد أن يدفنه في مقبرة ذكرياته.. عادت إلى خاطره ذكرى يوم رحل ليكمل دراسته. عادت عيناه بالدموع, كان غارقاً في تأملاته يجمع ما انقضى من سالف حياته في حيز محدود.. وصل مسكنه الجديد ليرتاح من عناء السفر، أحس بنسمات الخريف تمر من النافذة متوثبة نحو الباب, لترقص معها، ينصفق كالرصاصة، نهض ليفتحه فأخذت عيناه مناظر الجبل الربض تحت جنح الليل الصامت كصمت الفيلسوف.. تفاجأ بجارته مع ابنتها ترحب به في دارها.. بقيت رسائل والديه تصله.. كانت الفتاة تهتم بغرفته.. لكنه متعصب لفكرة المرأة ولا يكن لها إلا الكره، فقط كرهاً بجارة أهله التي حاولت أن تحط من قدر والديه, إما برمي النفايات عليهما أو جعل أولادها يرشقونهم بالحصى.. أصبح يحتقر بني جنسها ولا يأمن لها أبداً.. كانت الفتاة تلقي عليه التحية كل صباح وفي المساء يتفاجأ بكأس من الورود النضرة. هناك شيء واحد ظل يلهب عقله بسوط من الحيرة.. ماذا وراء الستار؟ هل هي مودة الجار أم غير ذلك؟.
لم ير أرق من هذه الفتاة, لكنه يعود ليقنع نفسه بالكره لها، إنه على أبواب امتحانات وعليه أن ينجح.. تعود نفسه وتلح عليه، حدث مرة أن رآها تدق مسامير على حافة نافذته، لكنه لم يكترث.. كانت عيناها تنطق بالصدق ونبراتها تفيض بالسحر حينها تبلورت تأملاته وتركزت تخيلاته فانصبت كلها في شخص واحد, في تلك الفتاة التي حركت مشاعره.. هلّ الربيع وبدأت عروق الياسمين تزحف على العريش فتنفحه رائحته قبل المغيب ويتبخر الندى برائحته وكأن الفتاة تلقي تحيتها من خلالها, وقد أحس بأنها تحاول وهو يصبح أرق.. فرح لنجاحه وقرر العودة لبيته وهجر تلك الغرفة.. صعقت الفتاة وحاولت أن تكلمه وتقنعه دون جدوى.. رحل وقد ألقى حبل الأيام على غاربها, كان كالنائم في عربة نقل لا يهمه عدد الإشارات التي يقف عندها, كان يقضي أمور حياته كلها بأطراف الشعور, لأن صميم الشعور ولبابه عنده ميتين.. مضت شهور.. بدأ يحن لتلك الغرفة: ما لنا نلح على ذكريات الأحباب بعد أن نفقدهم ونناجي صورهم ونتشبث بآثارهم؟ استخرجت ذاكرته شريطاً أسود لتعرض حادثة الماضي وتذكره بكرهه وحقده.. أصبح يلوم نفسه بعد أن صار وحيداً في بيت والديه الراحلين.. مضت سنين ليصبح عمره قرابة الخمسين وعقله ما زال يفكر بتلك الفتاة فقد كمن حبه لها كما يكمن عرق الذهب بين الصخور.. يحدّث صديقه: إن حب الشيوخ كالشجرة المثمرة يلمع بين أوراقها إحدى الثمار بعد أن ينتهي موسم الفاكهة، فحب الشيوخ كحب الأطفال قوي جارف لا يلتمس العلل.. قرر العودة، اكتشف أنه ظلمها, لقد أدمنت الحبوب المسكنة والمنومة بعد رحيله وتوفيت بسببها، عرف طعم الندامة كم هو مر، سخّر حياته للعمل والذكريات وقد زرع حول بيته فروع الياسمين ليخلد ذكرى أرق فتاة عرفها.
تغريد الشيني