الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

بسام كوسا..!

 

حسن حميد
ندرة، هم المبدعون في العالم الذين حددوا طريق مواهبهم فمضوا إليها مباشرة، وندرة هم الذين عرفوا دواخلهم المعرفة التامة، بوشكين أبو الأدب الروسي الذي ما زالت كتاباته الروائية والقصصية والمسرحية والشعرية موضع الدرس للأجيال المتعاقبة، أعدّ نفسه ليكون دبلوماسياً قريباً من القيصر، ينفذ سياسة الإمبراطورية القيصرية، لكن موهبته أخذته إلى عالم الأدب، ولم تتح له ساعة واحدة ليعمل في الدبلوماسية التي أعدّ نفسه لها، وحرم طفولته من كل المغريات لأنه كان يدرس في مدرسة داخلية لا تتيح لطلابها أن يكونوا مع أهليهم سوى في أوقات محددة. دوستويفسكي سيد السرد العالمي أعدّ نفسه قلباً وعقلاً لكي يكون مهندساً، ولكي يكون عاشقاً للحياة العسكرية لكن موهبته أخذته إلى عالم الكتابة والصحافة مع أنه لم يفكر في يوم من الأيام أن يكون كاتباً، بل لم تكن الكتابة حلماً من أحلامه، ولا حتى الصحافة مع أن الحديث عن الصحافة، ومعرفة تفاصيل مهنة المتاعب كانا حاضرين في البيت لأن أخاً له عمل في الصحافة طويلاً.
أمدّ هذا السطر عتبة للحديث عن بسام كوسا، ابن مدينة حلب، الفنان المسرحي والتلفزيوني والسينمائي الذي غدا علامة ذهبية في الحياة الفنية السورية والعربية في آن. فقد جاء من حلب إلى دمشق ليدرس عشقه، الفن التشكيلي، والرسم، والألوان، والديكور، وتقنيات الأضواء، وقد أفلح في غبّ علوم الفن التشكيلي شرقاً وغرباً وشغل بمعنى (التقنية) ليأتي بالجديد المدهش، وقد كان كائناً فنياً بين رفاقه على مقاعد الدرس، وروحاً مدهشة بين أساتذته لأنه كان يطارد النائي البعيد، والماورائي، والمختلف كيما يصير العمل الفني قريناً للمعنى/للحلم، ومع أن الألوان وسحرها، كانا جاذبين له، غير أنه اندفع في السنوات الأخيرة من الجامعة ليختص بالنحت، كيما يملأ، بعد التخرج، الأروقة النفيسة بما تعاونت عليه روحه وباصرته ويداه من جمال، غير أن بسام كوسا، وعلى نحو يشبه الخدر أو النعاس، أُخذ إلى عالم الفن السابع، إلى التمثيل، وقد برع فيه على نحو لافت للانتباه، وأجاد ونادد من كان يعدهم أساتذة، حتى غدا واحداً من أهم الفنانين في سورية، وأحد أهم مرايا الفن السوري التي ينظر إليها أهل الفن في البلاد العربية.. بالإعجاب الكامل. ولعل ما قرّ في واعية بسام كوسا أن النجاح في حقل معرفي هو نجاح في معرفة خبايا الذات وأسرارها، ولهذا لم يكن من السهل والمتاح لشاب ممثل أن تصير مدونته الفنية حاويةً على أشهر الأعمال الفنية السورية في السينما، والمسرح، والتلفزيون، وسط حضور فني سوري مدهش في عقدي السبعينيات والثمانينيات، والحق لو أن بسام كوسا لم يمتلك ذائقة فنية خطها البياني عالٍ جداً، لكانت أعماله اليوم تعد بالمئات من ناحية الكم، لكنه كان عاشقاً للنحل وأسرار عمله، لذلك اصطفى من النباتات الزهر، ومن الأعمال أدقها وأكثرها حاجة للحذق والبراعة.
بسام كوسا الذي بات نجماً معروفاً على امتداد رقعة جغرافية، وفنية، وروحية واسعة جداً، هو كاتب القصة القصيرة التي فيها الكثير من دهشة أعماله الفنية، والتعب الذي يلوّب كثيراً في أبهاء الروح ليصعد بالمستبطن الرائق إلى الأعالي لتعيشه الأرواح الأخرى، وهذا إن دلَّ على شيء فإنه يدل على روح بسام كوسا الشغوف بالعمل الجميل.. قراءةً، وتقليباً، ومساهرةً، ودخولاً إلى عالم المضمرات لجلوها وبيان ما فيها من الأسرار العواصي.
بسام كوسا اللوحة، والمنحوتة، والفيلم، والمسلسل، والمسرحية، والقصة القصيرة، والروح الطروب العاشقة للمعاني الوطنية، والإبداع، هو اليوم كتاب خضيل تتجلى صفحاته مثلما تتجلى مطارح غابة عن الجميل الداهش، والرواء المسعد!
Hasanhamid55@yahoo.com