نهاد قلعي.. لستَ مِمَن يُقال لهم وداعاً
حياته اليومية نفسها هي قصة أو مسلسل من العيار البديع، حكاية هو فيها البطل في الواقع، كما في المحاكاة-التمثيل-أيضا، حياة بدأت فيها الحكاية تُشكل وجدانه منذ تفتح وعيه على عالم الكنوز المدهشة في السير والحكايات الشعبية والف ليلة وليلة، بالإضافة لما غاص في بحره من الأدب العالمي، عن الحكاية بأنواعها، فصار بالفطرة كاتبا لديه كل مفاتيح الناقد، هذا عدا عن الثقافة الواسعة والموهبة النادرة في الكتابة والحس “الدراماتورجي” العالي، الذي كان ضمنيا يطل برأسه في كل أعماله، وهذا لكونه فنانا حقيقيا،لن يهدأ فيه هذا الحس النقدي،حتى يرضى عنه صاحبه.
“نهاد قلعي” -1928-1993- الفنان السوري الذي وقف كجبل في ضهر الدراما المحلية، وجعل من نهوضها أمرا قائما بذاته، حلت ذكرى ولوجه عتمة خياله منذ أيام، لكن واقع الحال يقول: الخلود هو خلود الإنجاز، وما أنجزه “قلعي” إن كان كممثل أو كاتب في الدراما بأنواعها (مسرح-سينما-تلفزيون)، يجعله من الأساطير السورية التي سيبقى صداها مدويا مدى الدهر، حاله في ذلك، كحال الكثير من المبدعين العالميين.
المحطات التي يمكن الوقوف عندها مطولا في رحلة الفنان”حسني البورظان” كلقب لا زال يُعرف به حتى اليوم محليا وفي عموم الوطن العربي، عديدة ومتنوعة، نظرا للغنى الواسع في تجربته، سواء تلك الحياتية المُعاشة في يومياته كابن وطالب وعامل ورب أسرة، أو تلك التي تحاكيها في الدراما عموما، وأيضا تلك التي يخطها في الأعمال التي كتبها تارة لوحده، وتارة بوجود أسماء أخرى رافقته في حياته المهنية، ومن وهجه الخلاق، صنعت مجدها، فالرجل كان يريد بعد نهاية دراسته الجامعية، السفر إلى القاهرة لدراسة التمثيل في معهدها الشهير، وقبل سفره بأيام تعرض لسرقة نقوده مما أجبره على ترك السفر والعمل في دمشق-وهذه لوحدها قصة وعظيمة أيضا إن عولجت- ليتنقل في عدة أعمال قبل أن يترك عمله النهائي كمخلص جمركي، ذاهبا ودون تفكير نحو شغفه،وذلك في أول فرصة فنية سنحت له، وكان هذا من حسن حظ الجمهور السوري والعربي، عندما كسب كاتبا وممثلا، يبقى اسمه يرن كأجراس الكنائس كلما في الاذهان لاح ذكره، أو عندما يحضر في عمل ما، تعرضه واحدة من المحطات العربية الكثيرة، التي لا تزال تعرض أيضا أعماله حتى تاريخه، وذلك لمعرفتها بقيمتها الفنية والأدبية والفكرية، وهي تدرك يقينا، أنها إنما عندما تقوم بذلك، فهي تقدم نوعا من الوعي الإنساني المعرفي والمتعوي لشعوبها، التي لمّا يزل تصنيفها بكونها من شعوب العالم الثالث، وما كان لهذه الأعمال من نتائج مبهرة محلية وعربية، بسبب التكرار غير الممل لعرضها ومشاهدتها في كل مرة، كما لو أنها تُعرض للمرة الأولى، منها على سبيل المثال لا الحصر، جعل اللهجة السورية، لهجة معروفة في كل بلاد الوطن العربي تقريبا، ما سهل لدرامانا المحلية القادمة، تخطي هذا العائق الكبير في التواصل مع جمهور لديه لهجات أخرى، وذلك في الوقت الذي كانت فيه مصر، هي المسيطرة بلهجتها على الفن عربيا وحتى محليا.
“نهاد قلعي”،عدا عن كونه ممثلا عظيما، كان أيضا صاحب موهبة فذة في الكتابة والتأليف والتقاط الأفكار الأجمل في الأدب العالمي، للاتكاء عليها في صنع عمل درامي تلفزيوني، بقالب حكائي، يحمل كل العناصر التي يجب أن تتوفر في هذا الفن الصعب، كما في “حمام الهنا” –نهاد قلعي- فيصل الياسري- تم إنتاجه عام 1968-، المسلسل المأخوذ عن رواية عالمية “الكراسي الثلاثة عشرة”، ليقدم للمشاهد بعد معالجته دراماتورجيا للرواية الأنفة الذكر، بمهارة و حرفية عالية المزاج، وتحويلها إلى مسلسل تلفزيوني، يرتقي في خطابه الحياتي، بأسلوب بسيط وجذاب، دون التعالي عليه، كما سيقدم له ما يمتعه أيضا ويسليه، وذلك من خلال القالب الكوميدي الذي جعله الشكل العام لإبداعه، وما يقدم له الفكرة المفيدة، من خلال النقد الاجتماعي الحقيقي لا السمج والممل، الذي حرص على تضمينه في أعماله، ولكن كخيط درامي خافت، انتقاد مشغول بماء العين، للعديد من المثالب الحياتية، التي كانت سائدة حينها، كرأي الشارع في المرأة العاملة والفنانة، ليجعلها سيدة وحرة وصاحبة قرار، بل ولها قدرتها على المواجهة حتى بمشاعرها، تلك التي لم يكن يجعلها نص “نهاد قلعي”، خجولة ومكبوتة أو فضائحية، بل قائمة ونابضة بالحياة، كما في شخصية “فطوم حيص بيص” التي أدتها ببراعة وعفوية الفنانة “نجاح حفيظ” -1941-2017- وذلك في مسلسل “صح النوم” (نهاد قلعي-خلدون المالح-عرض لأول مرة عام 1972) الذي يتناول حكاية تجري في فندق دمشقي، تديره “فطوم” ليقدمها بما كتبه، في حال وصورة مغايرة تماما لحالها في الشارع المحلي والعربي عموما، متخذا أيضا من الكوميديا إطارا تعبر منه رؤيته لواقع حال المرأة في المجتمع الشعبي، عدا عن كونها –أي الشخصية- على العكس تماما من معظم ما يقدم اليوم في الدراما التلفزيونية عموما حتى اليوم، وهذا مثال عن شخصية من الشخصيات الكثيرة التي اخترع وجودها ليقدم رسالته الإنسانية والغيرية على مجتمعه وأهله، فهو مهندس في رسم الشخصيات، وشاعر في وصف سمات الشخصية، وطبيب في أسلوب معالجة السيناريو.
أيضا كانت واحدة من رسائل العمل الخطيرة التي لم تفت فناننا الكبير، أنه يكتب عملا محليا، لذا فهو يكتب عن كل السوريين ولكل السوريين، وهنا كان “الأوتيل” هو الخيار الأنسب لذلك، -وهذا من بعض أعمال الدراماتورج الذي فيه-فهنا لا يوجد ما يجعل العمل ينتمي لذاك النوع أو غيره من الأنواع، كأعمال البيئة، التي أساء معظمها، للعديد من الشرائح الاجتماعية السورية، وتركت اثرا سلبيا في مجتمع يصدق دراماه ويحاكيها في الواقع!، وهذه لفتة ذكية من إنسان أولا وكاتب أولا أيضا، تعنيه البلاد كل البلاد، وأهلها كل أهلها.
من اللافت والمهم الذي يُمكن أن يوضع كمادة تدريسية، هو صدارة وارتفاع نسبة مشاهدة الأعمال التي انجزها لصالح الدراما المحلية حتى اليوم، مقارنة بأعمال درامية تُصنع وتُعرض اليوم أيضا، رغم تسلحها بأكثر أدوات هذا الفن تطورا، والذي كان ينقص العمل الدرامي التلفزيوني، في المرحلة التي لمع فيها اسم هذا النيزك، إن كان في التصوير أو الإنتاج والعمليات الفنية المرافقة، كالصوت وطبيعة الرؤية البصرية والمونتاج وغيرها، لكن الفنان الحقيقي، سيظهر ويعلن عن نفسه بأعماله، في أي زمان وأي مكان، ومهما كانت الظروف والخطوب، تماما، كما فعل نهاد قلعي.
تمّام علي بركات