رأيصحيفة البعث

قبل أن يجف حبر “بيــــان اسطنبــول”

 

قبل أن يجف حبر البيان الختامي للقمة الرباعية التي جمعت، في اسطنبول، السلطان العثماني مع زعماء كل من روسيا وألمانيا وفرنسا، وأكدت على “رفض الأجندات الانفصالية التي تهدّد سيادة ووحدة سورية”، كان أتباع “السلطان” في الشمال السوري المُحتل يضربون، وفقاً لتوجيهاته المسبقة، نتائج القمة المذكورة بعرض الحائط، ويكرّسون أجندته الاحتلالية المعلنة عبر أمرين داليّن: الأول، استبدال البطاقات الشخصية السورية بـ”هويات” جديدة تتميّز بأن لها “رمزاً خاصاً ونظاماً مرتبطاً مع النفوس في تركيا”، والثاني رفض العمل بالتوقيت الشتوي الوطني، والإبقاء على التوقيت القديم المتناغم مع المعمول به في الدولة التركية، وهي تجربة ستعمّم، كما بشرونا، “على كل المناطق التي يحتلها الأتراك” في تكريس فعلي وعملي لأطماع السلطان الاحتلالية السافرة.
بيد أن الأمر لا يقتصر على السلطان وحده، ففي اللحظة ذاتها، التي كان الزعماء المذكورون يوقّعون فيها على حلّ “عبر مسار سياسي قائم على المفاوضات بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم “2254”، كان بعضهم يخرق القرار المذكور وغيره من القرارات الدولية، سواء عبر صيغة مخاطبة للدولة السورية، الأمر الذي نبههم إليه الرئيس الروسي حين شدّد على “اللهجة الهادئة والمحترمة تجاه الحكومة الشرعية”، أو عبر وضع العراقيل أمام عودة اللاجئين، وربطها بشروط سياسية، وتوافر “ظروف مواتية” يمنعون، بالسياسة والسلاح، قيامها، أو عبر محاولة فرض تشكيلة معينة لـ “اللجنة الدستورية العتيدة” للتحكّم لاحقاً بمخرجات عملها.
وبالتوازي والتزامن مع هؤلاء كانت واشنطن، الغائبة الحاضرة عن القمة، تعلن رفضها إعادة إعمار مناطق سيطرة الدولة، وتقديم المساعدات الضرورية للمهجّرين العائدين إلى المناطق المحرّرة، وتربط ذلك كله بشروطها السياسية المعروفة، الأمر الذي يفضح حقيقة أن المرحلة المقبلة من الحرب على سورية ستكون بالتعاون مع هذا الفريق وتحت هذين العنوانين اللذين لا يُفترض، أخلاقياً وقانونياً، أن يكونا سلاحاً في أية معركة.
وبالطبع من نافل القول هنا أن بعض الذين أبدوا استعدادهم في قمة اسطنبول “للإسهام في إرساء السلام والاستقرار في سورية” لا يريدون السلام فيها، وبعض من أكدوا أن محاربة الإرهاب “أولوية مشتركة” لهم يتعاملون مباشرة مع “تنظيمي “داعش” و”جبهة النصرة” والأفراد والجماعات والتنظيمات التي لها صلة بـ”القاعدة” وغيرها التي يصنّفها مجلس الأمن الدولي إرهابية”، بل إن بعضهم، كتركيا مثلاً، يُعتبر في نظر البقية، وهذا اعتبار صحيح، راع ومسهل لإجرام هذه التنظيمات الإرهابية، فيما البعض الآخر، كفرنسا، اعتبر هذه التنظيمات أداة مشروعة لتحقيق أهداف سياسية..!!.
بيد أن ما لا يمكن التغاضي عنه أن مجرد انعقاد هذه القمة بصورتها التي رأيناها بها يشي بمقدار الحيرة الغربية الدائرة بين الإصرار على منع روسيا من العودة لمكانتها الطبيعية عالمياً، وبين تراجع القدرة على ذلك، لكنه يشي أيضاً، بالدلالات الأدق والأبعد، بعالم جديد تتحدّد فيه العلاقات الدولية والاصطفافات الجديدة استناداً إلى الأجندة القادمة من دول الجنوب هذه المرة، وليس من دول الشمال، كما كانت عليه الحال لفترة طويلة سابقة، وهو ما كثّفه عالم السياسة الفرنسي برتران بادي بالقول: “تتحوّل العلاقات الدولية والنظام الدولي نفسه بفعل ديناميات انطلقت في الجنوب”، وتلك قصة تحتاج إلى كلام آخر.
قصارى القول: لم يكن لبيان القمة الختامي، على جمال عباراته ومتانة سبك بعضها، أن يخفي التطلعات الاحتلالية لدى البعض، ومحاولة تكريس التقسيم التي يجد البعض الآخر أن لا موطىء قدم سياسي له في المنطقة دونها، بيد أن على هؤلاء مدّ أنظارهم أبعد ليراقبوا ما يحدث في “الانتخابات” المزعومة في الجولان المحتّل، فبعد نحو خمسين عاماً من كل محاولات التدجين وفرض “الهوية الإسرائيلية” على المواطنين السوريين، كما تحاول تركيا اليوم، يتابع العالم بأسره هذا الرفض الشعبي العارم والصاخب للهوية والاحتلال معاً، وذلك كله يقول بلسان عربي فصيح: الاحتلال باطل وزائل ولو كان لشبر من سورية مهما طال الزمن وجار.
أحمد حسن