دراساتصحيفة البعث

البهتان في العلاقة بين ترامب وسلمان

عبد الرحمن غنيم

كاتب وباحث من فلسطين

يستطيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يبرّر موقفه المتراخي إزاء النظام السعودي القاتل بأنه لا يريد أن يفرّط بصفقات الأسلحة الكبيرة القيمة المعقودة بين واشنطن وهذا النظام، ولكن هل هذه هي الحقيقة كلها، أم أن هناك ما يخفيه ترامب؟.. في الواقع إنها ليست الحقيقة، وإنما هي الذريعة لتبرير موقف لا مجال لتسويغه إلا بمثل هذا الادّعاء المصلحي المباشر.

إن جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي ليست إلا واحدة من الجرائم التي يقترفها النظام السعودي بشكل يومي، والتي يتساقط ضحاياها بشكل متواصل وسط تأييد أمريكا لهذا النظام وحمايتها له، بل ومساندتها له أيضاً، وما حدث في سورية، وما يحدث في اليمن، وفي أماكن أخرى عديدة، هو دليل قاطع على ذلك.

ولكي نستوعب الصورة بشكل دقيق، علينا أن نتذكر أولاً أن نمط الحروب الجديدة التي تشنها أمريكا إنما يعتمد على المرتزقة أكثر من اعتماده على الجيش الأمريكي نفسه، أو على جيوش حلفائه وأتباعه في الناتو وغير الناتو، ومع أن المرتزقة أصناف متعددة وليسوا صنفاً واحداً، إلا أن الصنف الأهم هو ذلك الذي يمثّل الوهابية السعودية ومنطقها، ومع أن السعودية ليست الطرف الوحيد المنخرط في تجنيد هؤلاء المرتزقة، إلا أنها الطرف الأهم، أو لنقل إنها المفتاح الأهم في هذه العملية، ولنضف إلى ذلك أيضاً أنها المموّل الأهم، ثم إن النظام السعودي، بالإضافة إلى تجنيده للمرتزقة الإرهابيين وتمويلهم، ينخرط بشكل مباشر في تنفيذ السياسات الأمريكية، ولا يمكننا أن نفسّر الحرب التي يشنها التحالف السعودي على اليمن إلا على هذا الأساس، فلو أن أمريكا تريد وقف هذه الحرب لما استمرت حتى الآن، ثم إن أمريكا تسهم بشكل فعلي وعملي في مساندة النظام السعودي في هذه الحرب، ما يعني أنها هي من اتخذت قرار هذه الحرب، ولولاها لما كانت أصلاً، ومن الجنون أن يتخيل أحد بأن أمريكا تسير وراء السعودية متورطة في حروبها، فالنظام السعودي هو الذي يسير متورطاً وراء أمريكا.

حين ننظر إلى المسألة من هذه الزاوية يتضح لنا أن واقعة قتل الخاشقجي رغم ولائه للأمريكان، وتبعيته لهم، وربما بسبب هذا الولاء وهذه التبعية، هي في نظر أمريكا حدث خطير في جانب ما، ولكنه حادث عابر في جانب آخر، بحيث لا يجوز أن يؤثر على الاستثمار الأمريكي للدور السعودي، ثم إن أمريكا تملك القدرة على أن تعبث بتركيبة النظام السعودي إذا لزم الأمر، دون أن يؤثر ذلك على دور هذا النظام في خدمة أمريكا، ومن هنا نستطيع أن نفهم موقف ترامب على أنه موقف من يمسك بالنظام السعودي من تلابيبه، ويسخّره في خدمة السياسة الأمريكية، والأهم أنه موقف من لا يريد التفريط بالدور الذي يؤديه النظام السعودي في خدمة أمريكا.

وقد تكون واقعة قتل الخاشقجي وسيلة تحكم أمريكي إضافية بالنظام السعودي، وهذا ما يجعل البعض يذهبون إلى الاعتقاد بأن يداً أمريكية أو صهيونية كانت وراء دفع النظام السعودي لاغتيال الخاشقجي، وإن كانت هناك تصورات أخرى حول الظروف والدوافع، منها ما يشير إلى دور للإخوان وأردوغان، ومهما كانت الحقيقة فإن النظام السعودي المرتهن لحساب أمريكا والصهاينة أصلاً بات أكثر ارتهاناً لهما الآن، وهو لا يستطيع أن يهرب من حضنيهما إلا إلى حضنيهما.

إن الحسابات العملية للصراع الذي تديره أمريكا لحسابها وحساب الصهاينة تؤكد أن حاجة أمريكا والصهاينة للنظام السعودي تفوق حاجة النظام السعودي لأمريكا والصهاينة، فالنظام السعودي هو الأقدر عملياً على استقطاب الإرهابيين في مختلف أنحاء العالم، إذ إن هذا الاستقطاب يتم في بيئة يزعمون أنها “سلفية” و”إسلامية”، ويفسّر فيها تجنيد الإرهابيين والمرتزقة على أنه “جهاد” أو “هجرة من أجل الجهاد”، ومن المؤكد أنه مهما بذلت المخابرات المركزية الأمريكية من الجهد، ومهما بذل الموساد الصهيوني من الجهد، لا يستطيعان استقطاب تلك الأعداد الكبيرة من الإرهابيين الذين جرى استقطابهم وبلغوا مئات الآلاف، وذلك من خلال مراكز سعودية عبر العالم تدّعي زوراً وبهتاناً أنها “إسلامية”، وتشكّل بذلك مصائد لبعض الناس، وبالتالي فإن الحاجة الأمريكية والصهيونية للدور السعودي في تجنيد الإرهابيين هي حاجة ماسة لا غنى عنها بالنسبة لهما.

قد يقال هنا إن الاستقطاب السعودي للإرهابيين ليس الجهد الوحيد المبذول في هذا الاتجاه، إذ إن هناك أطرافاً أخرى أسهمت في هذا الاستقطاب ومازالت تسهم فيه، منها تركيا، وقطر، وجماعة “الإخوان المسلمين”، ولكن الاستقطاب السعودي يظل هو الأكبر، كما أن التمويل السعودي يظل هو الأكثر، ثم إن أمريكا بحاجة إلى كل هذه الأطراف وغيرها بما فيها الطرف السعودي، وإلا فإن مشروعها القائم على استغلال الإرهابيين سيتراجع، وأعداد من يتم تجنيدهم من الإرهابيين ستتقلص، ولعل الدليل الأبرز على أن هذه المسألة تشغل بال الأمريكيين وتحكم سلوكهم ما أعلنته أوساط البنتاغون الأمريكي مؤخراً من أن عدد المتطوعين للانضمام إلى “داعش” قد انخفض خلال الفترة الأخيرة، بحيث بات معدل الالتحاق بها مئة شخص في الشهر، وهذا يعني أن العدّاد الأمريكي “شغال”، وأن من يتولون استقطاب الإرهابيين مازالوا ناشطين، وبالطبع فإن السعوديين هم في مقدمة المنخرطين، ثم إن الالتحاق بـ “داعش” هو أحد وجوه عملية تجنيد الإرهابيين وليس كل هذه الوجوه.

هل تعني حاجة الأمريكيين للحكام السعوديين على هذا النحو أن جريمة قتل الخاشقجي سينظر إليها على أنها واحدة من جرائم “فرفور صاحب الذنب المغفور”؟!.

دعونا نقول إنه إذا صحّ ما قاله الإعلام التركي– ولا نظن إلا أنه صحيح– من أن الخاشقجي كان على صلة بالمخابرات المركزية الأمريكية، أي كان عميلاً لها، فإن خطيئة النظام السعودي، أو بالأحرى ولي عهد النظام السعودي محمد بن سلمان، إنما تتمثّل في قتل عميل للمخابرات المركزية الأمريكية، وهذا في حدّ ذاته مشكلة، إذ إنه يعني خللاً في العلاقة بين الطرفين العابثين السعودي والأمريكي أدى إلى جعل عملاء أحدهما يبطشون بعميل للثاني، وهذا قد يعني فتح حساب بين المخابرات المركزية الأمريكية وبين ولي العهد السعودي، خاصة إذا كانت المخابرات المركزية متيقنة من أن ولي العهد والعاملين تحت إمرته، وفي مقدمتهم أحمد العسيري، كانوا يعرفون بالعلاقة الخاصة بين الخاشقجي والمخابرات الأمريكية، وهو أمر ممكن على كل حال، فمن يخشَ على سلطته من منافسيه سيرَ في كون أحد مواطنيه عدا عن علاقته بمعارضيه له علاقة مع المخابرات المركزية، ما يجعله ينظر إليه على أنه أكثر خطورة بسبب هذه العلاقة بالذات، ولذلك عمد إلى تصفيته، لكن الجانب الأمريكي بالمقابل سيفسر فعلة ابن سلمان على أنها ضربة موجهة للمخابرات المركزية الأمريكية، ودليل استعداد للتفلت أو على الأقل للمشاغبة على دور أمريكا، أو أن النظام السعودي آثر الأخذ بحساباته الخاصة والهواجس التي تحكمه وتستبد به تجاه معارضيه، وخاصة من أوساط العائلة السعودية الحاكمة ولو على حساب المصلحة الأمريكية.

وهنا قد يتساءل البعض: كيف يكون الخاشقجي عميلاً للمخابرات الأمريكية، ويعلم تمام العلم أن المصلحة الأمريكية تكمن في توطيد العلاقة مع النظام السعودي القائم، ولكنه يذهب إلى التواصل مع معارضي النظام من آل سعود أو من غير آل سعود، كما تفيد المعلومات حول موقف وسلوك الخاشقجي؟.. الجواب على مثل هذا السؤال واضح، وهو أن العميل بالنسبة للمخابرات الأمريكية أو أي جهاز أمني في العالم لا تكمن أهمية الدور الذي يقوم به في خدمتها في كونه يظهر الولاء لمن تريد الحفاظ على العلاقة معه، وإنما تكمن في قدرته على كشف خطط الأطراف الأخرى التي يمكن أن تستهدف هذا النظام، بما يمكنها من التحكم باللعبة من خلال اللعب على جميع الحبال، فالخاشقجي من وجهة نظر المخابرات الأمريكية لم تكن علاقته بها مجدية لو أنه حافظ على الولاء للنظام السعودي ولم يتظاهر بخلاف ذلك، ويذهب إلى معارضي النظام ليظهر لهم الولاء، أو أن يتبنى وجهة نظرهم في مقالاته الصحفية، ليكون بوسعه من خلال كسب ثقتهم والتواصل معهم معرفة نواياهم، وإبلاغ المخابرات المركزية بها، وبالطبع، فإن هذه المخابرات معنية بمعرفة جميع ما يحدث على الأرض من جميع أبعاده، ولها في ضوء ذلك أن تحدد السياسات، وأن تتخذ القرارات، وأن تقرر من يبقى، ومن يذهب، ومن يسقط، ومن يصعد، فهذه المعرفة هي التي تمكنها من تحديد خياراتها الخاصة، ومن ضمان بقاء النفوذ الأمريكي حتى لو جرت تحولات في تركيبة النظام الذي يهمها أن تبقى سيطرتها عليه قائمة.

إزاء هذه المعطيات، لا شك أن السؤال المطروح هو التالي: أيعقل ألا تكون المخابرات المركزية الأمريكية قد علمت بخطة استهداف الخاشقجي من عملاء لها في الرياض؟.. ولعل هذا السؤال هو السؤال الأخطر المطروح، ولعله أيضاً محور التحقيق الذي يزعمون أنه تقرر إجراؤه تحت إشراف ولي العهد محمد بن سلمان، كما أن أبسط استنتاج يمكن الوصول إليه في ضوء ما حدث ويحدث هو أن أمر التخلص من خاشقجي إنما كان من ولي العهد نفسه، وأن هذا الأمر اقترن غالباً بأوامر مشدّدة في أن تبقى العملية سرّية، وألا يعلم بها أحد حتى وإن كان هذا هو المخابرات المركزية الأمريكية وإلا…؟!.

إن واقعة من هذا النوع تعني أن في التنسيق بين النظام السعودي والمخابرات الأمريكية خللاً ما في مكان ما، فبينما تزرع السي آي ايه عملاءها في السلطة السعودية، وفي أوساط المعارضين لها، فإن محمد بن سلمان يريد أن يتخلص من المعارضة بأي شكل من الأشكال، وبأي أسلوب كان، ولا يضع حسابات المخابرات الأمريكية وعملائها في الحسبان، فابن سلمان، حتى وإن كان عميلاً سلّم أمره للأمريكان، إلا أنه يدرك أن وجود معارضة له من داخل الأسرة السعودية، ووجود اختراق لها من قبل المخابرات الأمريكية، قد يعني في لحظة ما تأييد وقوع حركة للتغيير.

ورغم ما يمثّله سلوك محمد بن سلمان من تحد، إلا أننا نلاحظ بأن أباه سلمان وكذلك ترامب يؤثران التغطية على فعلته، والبحث عن رواية، وعن متهمين، مع استثناء ابن سلمان من الاتهام، وهذا المنطق لا يمكن وصفه إلا على أنه بهتان، والدليل، أنه لو لم يكن أمر القتل صادراً عن ابن سلمان لكان الخبر قد وصل حتماً إلى الأمريكان قبل أن تطأ قدما الخاشقجي قنصلية السعودية في اسطنبول!.