دراساتصحيفة البعث

الإعلام السعودي.. مواصلة التطبيع مع “إسرائيل”

د. معن منيف سليمان

يدعو الإعلام السعودي إلى التطبيع مع “إسرائيل”، والتعايش مع وجودها في المنطقة، على أساس أن “إسرائيل” لم تعد عدواً كما كانت في السابق، ولابد من الاعتراف بوجودها، ومدّ جسور الاتصال معها، باعتبار أن قطع العلاقات مع “إسرائيل” بات أمراً غير مجد في هذه الأيام، داعياً إلى حرف البوصلة نحو عدو آخر يتمثّل بالمقام الأول بإيران، ولا شك أن مواصلة التطبيع الإعلامي يأتي في سياق تهيئة الرأي العام للمرحلة المقبلة التي قد تشهد تطبيعاً رسمياً مع “إسرائيل”، ويبدو أن هذه الدعوة تمثّل وجهة النظر السعودية الرسمية التي شهدت انفتاحاً غير مسبوق على “إسرائيل” خلال الأشهر الماضية.

واستكمالاً للموقف الرسمي السعودي المتخاذل والمتواطئ، شرع الإعلام في مملكة بني سعود بالتطبيع السياسي مع “إسرائيل”، متبنّياً جملة من الأفكار والمفاهيم الخطيرة تهدف بمجملها إلى تمييع القضية الفلسطينية وتفريغها من محتواها الحقيقي، وبالتالي التأثير على الرأي العام العربي والإسلامي، محاولاً إظهار الصراع على أنه فلسطيني- إسرائيلي، وليس عربياً- إسلامياً- إسرائيلياً، فضلاً عن المحاولات الحثيثة لحرف البوصلة عن وجهتها الفلسطينية، عبر البدء بمقارنة إيران، وحزب الله، وفصائل المقاومة مع الكيان الإسرائيلي، لينتهي الأمر في مصلحة “إسرائيل” وحقها في حماية نفسها، والدفاع عن وجودها التاريخي كما يروّج، ولايزال هذا الإعلام يسعى بقوة لاستغلال أي حادث لتجييره في صالح مشروع التطبيع الهادف لتصفية القضية الفلسطينية.

وفي خطوة تعدّ امتداداً لسياسة الإعلام السعودي، قبل قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس باعتبارها عاصمة “إسرائيل”، واصل الإعلام السعودي خطوات تطبيعية كبيرة عبر استضافة شخصيات إسرائيلية، وإجراء حوارات معها، ويعدّ موقع “ايلاف” أبرز وسائل الإعلام السعودية التي فتحت الباب واسعاً أمام استضافة مسؤولين إسرائيليين سابقين وحاليين، كان آخرهم وزير الاستخبارات الإسرائيلية “يسرائيل كاتس” الذي دافع عن قرار ترامب، وأعلن أمله في أن يصل حجم التبادل التجاري مع السعودية إلى 250 مليار دولار سنوياً في حال نجاح المشروع الإقليمي لربط المملكة بالسكك الحديدية مع الأردن، وصولاً إلى حيفا.

كما نشر موقع “ايلاف” أيضاً مقالاً لأفيخاي أدرعي الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، هاجم فيه المقاومة الفلسطينية، ووجه إليها اتهامات باطلة، وأنها سبب الخراب والدمار الذي يتعرّض له قطاع غزة.

وأجرى الموقع نفسه مقابلة مع زعيم كتلة المعارضة في الكنيست “اسحق هرتسوغ” وصف خلالها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بأنه “أحد الثوريين الكبار في الشرق الأوسط”، وأنه “يحترم كثيراً الخطوات التي يقوم بها”، مؤكداً أن ابن سلمان وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد يقدّمان “أطروحات مثيرة للإعجاب”، وسبق للموقع أن أجرى مقابلة مماثلة مع رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال “غادي ايزنكوت”.

لقد شهدت الصحافة والفضائيات السعودية عشرات الدعوات إلى التطبيع مع “إسرائيل” وإقامة علاقات معها، حتى بعد قرار ترامب، ووصف المستشار الاقتصادي والكاتب السعودي خالد الأشاعرة الشعب العربي في فلسطين بأنهم “فلوس طينيين”، واتهمهم بأنهم باعوا أراضيهم لليهود مقابل المال، مؤكداً أن الإسرائيليين ليسوا محتلين أساساً، كما تهجّم الصحفي السعودي بصحيفة عكاظ صالح الفهيد على الفلسطينيين، قائلاً: “إنهم يكرهون الشعب السعودي ولا يتعاطفون معه ولا مع قضاياه، بل يصطفون خلف خصومه وأعدائه”.

وقال عبد الحميد حكيم مدير معهد أبحاث الشرق الأوسط في جدة على قناة “الحرة”:”إن العرب عليهم أن يتفهموا أن القدس رمز ديني لليهود مثل قداسة مكّة والمدينة للمسلمين”، متجاهلاً أنها مكان مقدّس للمسلمين أيضاً، وطالب بالتحرر مما أسماه “الموروث الناصري”، و”موروث الإسلام السياسي” الذي غرس ثقافة كراهية اليهود، وإنكار حقهم التاريخي في المنطقة بهدف مصالح سياسية بحتة.

وفي مقال غير مسبوق، عرض الكاتب السعودي منصور النقيدان في مقاله بصحيفة “الاتحاد” الإماراتية قصة فيلم يتحدّث عن عمالة “مصعب” نجل القيادي في حركة حماس حسن يوسف للاحتلال الإسرائيلي، وقيامه بتسريب معلومات حساسة إليهم، مختتماً حديثه عن الفيلم قائلاً إنه يعرض “خيارات الفرد لإنقاذ نفسه وعائلته”، مضيفاً: “كل شخص له زاوية نظره الخاصة، إلا أنها قصة جديرة بالتفكر لإنقاذ ما تبقى من فرصة للسلام”، أي أنه عدّ الخيانة للاحتلال فرصة لتحقيق السلام، كما لم يخف تعاطفه مع الخائن طوال المقال!.

صحيفة الحياة السعودية نشرت مقالاً للكاتب السعودي زياد الدريس تحت عنوان “يجب تنفيذ وعد بلفور كاملاً”، تضمّن مفاهيم خطيرة حاول الكاتب من خلالها تضليل الرأي العام العربي، والتخفيف من النتائج الكارثية والمدمرة لوعد بلفور المشؤوم، مشيراً إلى أنه لم يكن في الحقيقة الخطوة الأولى لقيام “إسرائيل”، بل الخطوة السياسية الأولى، وحاول استغلال فجوة عدم التزام الكيان الإسرائيلي بشرط “المسّ بالحقوق الدينية للجماعات الأخرى” لتكريس وعد بلفور، ليختم مقاله بالقول: “فقد تم تنفيذ الوعد من دون تنفيذ شرطه!”، وكأنه يدعو لتنفيذ الوعد وشرطه.

كما نشطت الحسابات السعودية على مواقع التواصل الاجتماعي في الهجوم على الشعب العربي في فلسطين، وتحميله المسؤولية عمّا آلت إليه الأوضاع، ودعوة الشعب العربي في السعودية إلى الاهتمام بالقضايا الداخلية، وتنمية البلاد بدلاً من الانشغال بقضايا خارجية لم تستفد منها السعودية بشيء، حسب قولهم.

وتحفل وسائل الإعلام الإسرائيلية بمقالات وتقارير تشيد بكتّاب ومدوّنين عرب وسعوديين يؤيّدون صراحة التطبيع العربي العلني مع “إسرائيل”، ولاسيما بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس المحتلة “عاصمة لإسرائيل”، وتحرص هذه الوسائل على نشر مقالات أو تغريدات داعمة للتطبيع في مواقع إسرائيلية ناطقة بالعربية، كموقع التواصل التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية، وموقع “المصدر” التابع لما يعرف بـ “وحدة الإعلام الموجه” في جهاز الشاباك، وتتخذ وسائل الإعلام الإسرائيلية من هذه المواقف أدلّة على ما تقول إنها رغبة عربية في تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.

إن اللهجة المستعمَلة في وسائل الإعلام السعودية، سواء كانت حكومية أو خاصة، تؤكّد بشكل لا يترك مجالاً للشك أن مسألة التطبيع مع “إسرائيل” قد حُسمت نهائياً، وهكذا برح الخفاء، وكشف الغطاء، وتساقطت أوراق التوت، ومعها الأقنعة الزائفة، وتكشفت الحقائق كاملة أمام الشعوب، فالمتتبع للصحافة السعودية ومواقع التواصل الاجتماعي في الأشهر الماضية يندهش من النقاش حول التطبيع السعودي مع “إسرائيل”، هذا الأمر غير المسبوق في الساحة الإعلامية السعودية يشير إلى أن سلطات بني سعود نفسها من تدعم هذا التوجه نحو التطبيع، وتحاول تهيئة الشعب لتقبّله.

السعودية التي قادت، في الظاهر، سياسة رفض “إسرائيل”، وعدم إقامة أية علاقات معها تحت أي اسم، نجدها اليوم أقرب للحليف مع تل أبيب، وقد ظهرت العشرات من الشخصيات السعودية الشهيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهم يعملون صحفيين وكتّاباً ومسؤولين رسميين في الحكومة السعودية، كمروجين للتطبيع العلني مع “إسرائيل”، واحتفلت صفحات إسرائيلية على مواقع التواصل الاجتماعي بهذه التصريحات، ونقلتها مع ترحيب كبير!.