دراساتصحيفة البعث

الفراغ الاستراتيجي وعدم الاستقرار في السياسة الخارجية الألمانية

ترجمة وإعداد: عناية ناصر

لم تعد برلين قادرة على طرح الأفكار التي لا تترتب عليها أي عواقب عملية، ولا تجنب الخوض في هذا الأمر، لأن هناك تباين صارخ بين حجم التغيير في بيئة السياسة الخارجية لألمانيا والافتقار إلى النقاش الاستراتيجي في البلاد. ولهذا التغيير ثلاثة أبعاد تشكل بشكل أساسي الوضع الحالي والممارسة الحالية للسياسة الخارجية الألمانية.

أولاً: إن الاتحاد الأوروبي، رغم أنه إطار أساسي في السياسة الألمانية، إلا أنه أكثر انقساماً سياسياً من أي وقت مضى، وهو يفتقر إلى وضع مستقر. وتبدو الكتلة الأوروبية أقل قدرة على التصرف كدافع للقوة الألمانية التي اعتقد فرانك فالتر شتاينماير، خلال فترة ولايته كوزير للخارجية، أنها يمكن أن تكون عليه. لقد انتهى الإجماع الواسع على أوروبا منذ فترة طويلة، لتقوم “السيادة” بتشكيل الخطاب تجاه الاتحاد الأوروبي في العديد من البلدان، بما في ذلك ألمانيا.

ثانياً: تحول سياسيات القوى العظمى في النظام متعدد الأطراف. إذ تنظر القوى العالمية والدول الإقليمية المؤثرة بشكل متزايد إلى أوروبا وألمانيا كقطع متحركة على رقعة الشطرنج الجيوسياسية، وتستغل نقاط ضعفها. فعلى سبيل المثال، تصوّر الإدارة الأمريكية الحالية ألمانيا عدواً اقتصادياً ومنتفع بالمجان عسكرياً. وهي تسعى إلى التقليل من مكانة ألمانيا، وإثارة جيرانها ضدها، وإضعاف المشروع الأوروبي بأكمله بالضغط على قائده الرئيسي.

ثالثاً: لقد خسرت أوروبا وبالتالي جيران ألمانيا الاستقرار الهش الذي كانت تتمتع به في السابق في العديد من الأماكن، وتحطمت الآمال بمستقبل أفضل. في العديد من بلدان شمال إفريقيا، تؤكد الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة كلها أن الصراعات المحلية ستستمر لسنوات قادمة. كما أن الشرق الأوسط عالق في أزمة عميقة  للدولة والشرعية السياسية. وغالباً ما يتغذى العنف السياسي واسع النطاق على الصراع بين القوى الإقليمية، ويشل الحياة المدنية والنشاط الاقتصادي في جميع أنحاء المنطقة. وفي أوروبا الشرقية تتأرجح الدول الضعيفة وغير المستقرة بين روسيا الأكثر حزماً من أي وقت مضى وبين الاتحاد الأوروبي المجهد.

التخبط

لم يواكب النقاش الاستراتيجي الألماني أي من هذه التحديات بعد باعتراف الجميع، صحيح أنه لم تنهار ألمانيا تحت الضغط، لكن الاعتماد على ذلك كضمان للمستقبل سيكون أمراً ساذجاً تماماً. منذ إعادة توحيدها في عام 1990، برزت مسألة السياسة الخارجية الجديدة لألمانيا بشكل متكرر في الجدل حول السياسة الألمانية، لكن الطبقة السياسية قامت بتهميشها في كل مرة، دون التعرض لرد فعل عام كما كان واضحاً بشكل خاص منذ بداية الأزمة المالية 2007- 2008، تأرجح الخطاب إلى حد كبير بين إضفاء المثالية على ألمانيا كزعيم خير لأوروبا أو شيطنتها باعتبارها مهيمنة على القارة. استمر الزعماء السياسيون الألمان في التخبط، متخوفون  دائماً من المبالغة في رد الفعل أو الإفراط في الإنفاق، وأعربوا عن أسفهم لأوجه القصور في الوضع الراهن مع الحفاظ عليه على أمل أن الأمور ستتحسن.

بهذه الطريقة، أصبحت ألمانيا دولة كبيرة بسياسة خارجية لدولة صغيرة، وهي مشكلة لنفسها ولأوروبا. تقليدياً، سعت الدول الصغيرة إلى التلاؤم مع طموحات وأفعال القوى الكبرى، مع العلم أنها لن تكون قادرة على التأثير عليها بشكل كامل بأي حال. ومع إدراكها لتكاليف القيادة، فإن النخب الألمانية غالباً ما تراجعت عن النموذج الصغير للدولة التي تفوقت فيه ألمانيا الغربية في السبعينيات. وإذا كان المشروع الأوروبي سيبقى على قيد الحياة، فإن برلين تحتاج إلى تشكيل هياكلها الداخلية وتأمين موقع أوروبا في النظام الدولي، فديموغرافيا ألمانيا واقتصادها وموقعها تتطلب سياسة خارجية فاعلة على نطاق واسع.

في السنوات القادمة، سيضر نهج الدولة الصغيرة بالمصالح الأمنية للبلاد وازدهارها. وبما أن سياسة القوة العظمى تحل محل القواعد، والقيم القائمة على النظام متعدد الأطراف، فلا يمكن لألمانيا أن تقبل حتى البيئة المستجيبة للاتحاد الأوروبي كأمر مسلم به، فالوضع الدولي الذي كان ملائماً  للغاية ينهار، ولن تستطيع ألمانيا الحالية ولا الاتحاد الأوروبي الحالي تأخير العملية أو عكسها. وهنا تحتاج برلين إلى الدخول في نقاش حاد حول كيفية حماية مصالحها وتشكيل بيئتها، كما يتعين على القادة السياسيين الألمان وضع أهداف واضحة وتحديد وسائل للتعامل مع التحديات المقبلة. وهذا يتطلب منهم صياغة استراتيجية تميز بين ما يجب على ألمانيا القيام به على المستوى الوطني وما يجب عليها القيام به من خلال أوروبا، استراتيجية تحدد التغييرات في الاتحاد الأوروبي التي من شأنها تمكين السياسة الخارجية الألمانية.
يرى العديد من خبراء السياسة الأوروبيين، بمن فيهم “أولريكه فرانك”، المحللة السياسية في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أن ألمانيا يجب أن تصبح دولة “طبيعية” للمضي قدماً، والاستثمار عسكرياً بما يتناسب مع حجمها الاقتصادي، لكن هذا الحل يفتقد إلى نقطة أساسية، فمنذ صعود نظام الدولة الأوروبي الحديث، لم تكن ألمانيا قط دولة طبيعية بهذا المعنى.

في الحقيقة، لم تنجح محاولات ألمانيا في تحديد سياستها الخارجية كدالة للقدرات العسكرية أو القوة بمعنى أكثر عمومية منذ أن اتحدت تحت الحكم البروسي، وأن موقعها وحجمها وإمكانية الهيمنة التي تملكها كانت دائماً تقلق الدول الأوروبية الأخرى بطرق لا يمكن إلا للسياسة الخارجية الذكية التعامل معها. على سبيل المثال، أثبت التحالف الوثيق مع فرنسا كأساس للتكامل الأوروبي أنه أكثر ذكاءً من سياسة بسمارك في منع التحالفات المناهضة لألمانيا. فقد تحول التوازن بين باريس وبرلين بشكل دراماتيكي منذ عام 1990 إلى مؤشر لنهج جديد.

طوال فترة ما بعد الحرب، لم تكن ألمانيا الغربية منتفعة بالمجان تماماً، أمنياً أو مستوردة للأمن، كما تؤكد فرانك. كان هانز بيتر شوارتز، وهو مؤرخ بارز في ألمانيا ما بعد الحرب، قد أخطأ عندما صرح أن البلاد تراجعت من “هاجس هوس القوة” إلى “إهمال القوة”، بدلاً من ذلك، قدمت ألمانيا الغربية الأصول الأمنية الأساسية للتحالف الغربي، ونتيجة لذلك، كان التركيز الأعلى للقوات العسكرية القتالية في أراضيها أكثر من أي بلد آخر في أوروبا الغربية. بجانب البوندس فاير “الجيش الألماني”، حافظ الحلفاء الغربيون على وجود عسكري ضخم وفعال للغاية في البلاد، وقد تجاوز الإنفاق الدفاعي لألمانيا الغربية 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً في الفترة الممتدة حتى عام 1985. وكان ينظر إلى الدولتين الألمانيتين على نطاق واسع على أنهما ساحة المعركة المحتملة لحرب عالمية ثالثة.

لقد غيرت الوحدة الألمانية وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق هذا الموقف الشاذ، ولم يعد هناك سبب يذكر لبرلين للدخول في مثل هذه المستويات العالية من الإنفاق والنشاط العسكري. وأصبح السياسيون الألمان، المعتادون على  التهديد الوشيك وعلى التزام التحالف الوجودي، يفتقرون إلى سبب وسرد مقنعين للحفاظ على الوضع العسكري لبلادهم. ومثل جميع دول الناتو، استفادت ألمانيا من مكاسب السلام.

تملك ألمانيا الكثير من الأفكار حول “المزيد من أوروبا” لكن لا تملك إلاّ القليل من الخطط العملية لتحقيق ذلك. واليوم، فإن تغيير مسار ألمانيا يتطلب أكثر من الدعوات المرتكزة إلى “مسؤولياتها”، وهو مصطلح يُستخدم غالباً لمنع النقاش بدلاً من تشجيع الحوار. ويتطلب تركيزاً أوسع بكثير على المصالح والسياسات الخارجية والأمنية للبلاد، خاصة فيما يتعلق بنوع الاتحاد الأوروبي الذي تسعى ألمانيا إلى إنشائه، وكذلك دور ألمانيا فيه. في هذا السياق، لن يكون الجيش هو الرافعة لتغيير السياسة الخارجية لألمانيا، ولكن قد يرغب الكثير من الممثلين والخبراء في واشنطن أو لندن أو باريس في ذلك، كما يدرك الخبراء في برلين تماماً قوة ألمانيا، على الرغم من افتقارهم إلى أي مفهوم لكيفية استخدامها.

في ضوء التغيرات الجذرية في بيئتها السياسية الخارجية، لم تعد برلين قادرة على طرح أفكار للسياسة الخارجية، كما هو الحال في الممارسة الحالية. على سبيل المثال، وضعت الاتفاقية الائتلافية الألمانية الموقعة في أوائل عام 2018 عدة تدابير لتعزيز إدارة منطقة اليورو و”الاستجابة” لخطط إصلاح اتحاد العملة الذي طرحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. لكن، وعلى الرغم من أن برلين وباريس ترغبان في أن تصبح أوروبا أقوى وأكثر تكاملاً، لم يحدث أي شيء منذ ذلك الحين.

الخطابة مقابل العمل

في صيف هذا العام، وضعت المستشارة أنجيلا ميركل خطة طموحة لسياسة أوروبية مشتركة في الهجرة واللجوء، بالإضافة إلى وكالة لجوء أوروبية وقوة حدود وخفر سواحل. وهذه الرؤية طويلة المدى، وكما يبدو، ليس لها إلا آثار عملية قليلة سياسياً، بأسلوب يعيد إلى الأذهان الالتزام الشهير بالجيش الأوروبي (أو “جيش الأوروبيين” كما وصفه اتفاق التحالف)، وبالمثل، كثيراً ما تحدثت ألمانيا عن مبادرة للتعاون الهيكلي الدائم، في حين إنها لم تفعل سوى القليل لبناء “اتحاد دفاعي”، كما يصفه وزير الدفاع أرسولا فون دير ليين، في أمل واضح في أن يخرج المرء بشيء من لا شيء.
الفجوة بين الخطابة والعمل واضحة في كل شيء تقريباً. وفي دعوة لمواجهة الأحادية الأمريكية، أعلن وزير الخارجية هيكو ماس أن ألمانيا ستقوم ببناء تحالف متعدد الأطراف. ومع ذلك ، فإن هذا يتطلب بالضرورة تقوية الاتحاد الأوروبي بشكل كبير باعتباره جهة فاعلة في السياسة الخارجية، وتحقيق إجماع استراتيجي وثيق بين ألمانيا وفرنسا، لكن يبدو أن برلين لم تدفع باتجاه أي منهما. لقد تحدثت ميركل عن استخدام مقعد ألمانيا غير الدائم في مجلس الأمن “كمقعد أوروبي”. ولكن، حتى الآن، لم تلتزم الحكومة الألمانية بتأسيس موقعها في المواقف المتفق عليها مع شركائها في الاتحاد الأوروبي. وبالمثل، لم يكن لمقترحها بمجلس أمن أوروبي نتائج عملية. وفي برلين، هناك الكثير من الأفكار حول “أوروبا أقوى” ولكن ليس هناك إلاّ القليل من الخطط العملية لتحقيق ذلك، لأن الشك الأساسي حول وحدة الاتحاد الأوروبي لا يؤدي إلا إلى تكثيف الجمود الاستراتيجي، إذا ما تم اختباره، فإن الكتلة قد تنهار. لهذا إن إحجام ألمانيا عن تخصيص موارد سياسية ومالية كبيرة للأهداف طويلة الأجل يزيد من تفاقم المشكلة.

كما أنه لا يوجد لدى الطبقة السياسية في ألمانيا أفكار عملية لتطبيق القوة الألمانية في الشؤون الأوروبية والدولية، فقد فشلت في بناء ارتباط استراتيجي قوي مع فرنسا ، وتجاهلت تشكيل تحالف من اللاعبين القادرين داخل الاتحاد الأوروبي. ومفاهيمها الكبيرة فيما يتعلق بأوروبا منعزلة جداً عن واقع الاتحاد الأوروبي وقدراته بحيث تصبح  لا معنى لها. علاوة على ذلك، فإن الطبقة السياسية لا تعرف حجم القوة الذي تريده لألمانيا. هل ستسعى إلى أن تصبح لاعباً صغيراً في الرابطة الرئيسية للاعبين الجيوسياسيين، أم إنها تريد مراكمة القوة لدفع ظهور الاتحاد الأوروبي كلاعب عالمي؟ يبدو أن إبقاء خيارات المرء مفتوحة وتجنب الالتزامات الرئيسية هو القاعدة المعمول بها اليوم في برلين، وهو وصفة للركود.

بالنسبة إلى جميع الأطراف في الحكومة الألمانية، كان الائتلاف الحالي هو الخطة B. حيث يبدو أن تفضيلات السياسة الخارجية الحالية تتبع أيضاً مثل هذه الخطة البديلة، والتي عادةً ما تعني مجرد الارتباك. إذا ما ركزت استراتيجيتها الكبرى على البراغماتية للسيطرة على المخاطر وتجنب التكاليف، فإن الحكومة تخاطر بالفشل في كلا الحسابين.