رغم ألق بياناتها إلا أنها ليست بمنأى عن الشبهات..! تطبيق حسن حوكمة الشركات المساهمة العامة بعهدة المحاسبين القانونين والجهات الرقابية المعنية..!
إذا ما اتفقنا بداية على أن الشركات المساهمة العامة تتربع بالفعل على قائمة الفعاليات الاقتصادية الأكثر ألقاً لجهة شفافية بياناتها المالية التي تنشر بشكل دوري على الملأ نظراً لخضوعها لمبادئ الحوكمة، إلا أن ذلك لا يعني أنها بمنأى عما يكتنف بقية الفعاليات سواء العامة أم الخاصة من فساد لا يوفر مالاً عاماً أو خاصاً..!.
الحلقة الأهم
ففي الوقت الذي تسهم حوكمة الشركات بتعزيز موارد الخزينة العامة من خلال دفع ما يترتب عليها من ضرائب ورسوم، فقد تنزلق هذه الشركات إلى متاهات ما قد يرسمه لها البارعون بابتكار أساليب تمكنهم من تحصيل أموال غير مشروعة ولو على حساب المساهمين، عبر توظيفات وصفقات مشبوهة تتم من تحت الطاولة من الصعوبة اكتشافها، من خلال تجاوزات أعضاء مجالس إداراتها التي تضم كبار المالكين لأسهمها. ولعل الحلقة الأهم المعنية بمنع أو بسماح تمرير التجاوزات المحتملة هو المحاسب القانوني، المفترض أن يضطلع بمهمة إبلاغ وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك كونها الجهة الرقابية على أداء هذه الشركات، يضاف إلى ذلك حلقة الهيئات المشرفة على الشركات المالية (مصارف – تأمين) مثل هيئة الإشراف على التأمين ومصرف سورية المركزي، المعنية بشكل أو بآخر بتقصي حقائق يمكن إخفاؤها تتعلق بغسيل الأموال أو ترحيلها إلى بلدان مجاورة لتوظيفها بمجالات غير قانونية قد تلحق ضرراً بأرباح المساهمين خاصة الصغار منهم، علماً أن تشريع مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب اعتبر أن سرقة واختلاس الأموال العامة أو الخاصة أو الاستيلاء عليها بطرق السطو أو السلب، أو بوسائل احتيالية أو تحويلها غير المشروع عن طريق النظم الحاسوبية، من الجرائم الأصيلة لغسل الأموال…!
ملخص لحالة
ربما يرى البعض بأن طرحنا هذا يرقى إلى المبالغة، إلا أن واقع الحال يستدعي دق ناقوس خطر مثل هذه الانزلاقات، مع الإشارة بالطبع في هذا السياق إلى عدم استهدافنا لشركة بعينها، لكن التقرير السنوي لهيئة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب عرض عدة حالات لوقائع جرمية تم ضبطها، لعل أبرزها تلك التي أفادت عن قيام مدير عام شركة -لم يتم الإفصاح عن ماهيتها وإنما تم ترميز اسمها وأسماء المرتكبين- بجرائم الاحتيال والتزوير، واستعمال المزور وارتكابه تجاوزات إدارية ومالية في الشركة بالاشتراك مع رئس مجلس إدارة الشركة، وأشار التقرير إلى استعمال هذا المدير وثائق مزورة لاستلام مناصب عليا، واستغلال ذلك المنصب لتحقيق منافع شخصية ذات مردود مرتفع..!
ثغرة
يرمي المشككون بحسابات الشركات المساهمة وأرباحها الكرة في ملعب مدققي الحسابات المنتخبين من الهيئات العامة في هذه الشركات، معتبرين أنه في حال وجود إيرادات مالية من صفقات مشبوهة يعود إما لتواطؤ المدقق، أو لعدم امتلاكه الصلاحيات التي تخوله من التحقق من مصدر الإيرادات ومسار النفقات، أو أنه بالفعل لا يستطيع اكتشاف عمليات الاحتيال والتلاعب التي تتم خارج الدفاتر والقيود، ما يستوجب بالتالي ردم هذه الثغرة من قبل الجهات المعنية بمتابعة سير أعمال الشركات المساهمة. ليأتي الرد من قبل بعض المحاسبين ليؤكدوا بداية أن المحاسب يقوم بتدقيق الدفاتر والقيود وفق المستندات والوثائق التي تبرز له، للتأكد من أن الإيرادات والنفقات مصروفة ومستوفاة وفق الأصول القانونية والنظام المالي للشركة وبمعرفة الإدارة، أما العمليات المشبوهة فلا يستطيع متابعتها لأنها تتم خارج حدود الدفاتر، مشيرين إلى أن وسائل الاحتيال موجودة في كثير من برامج التدقيق، ويمكن لأية عملية فساد اختراق أكثر القوانين صرامة، فعلى سبيل المثال: قد تطلب إحدى الجهات العامة من أحد المصارف فتح اعتماد بقيمة 50 مليون دولار لاستيراد أجهزة ومعدات فنية ذات قيمة استراتيجية من شركة ما في دولة ما، فيلجأ مدير المصرف لفتح اعتماد خاص له هناك، وبدلاً من أن يحول المبلغ لاعتماد الشركة يحوله لاعتماده الخاص بغية الحصول على الفوائد المجزية، وبعد فترة تقوم الشركة الموردة بمخاطبة الجهة العامة للاستفسار عن تأخرها بتحويل المبلغ لاعتمادها، لتقوم الأخيرة بمخاطبة مدير المصرف الذي يتذرع بحصول خطأ ما يمكن تلافيه بالسرعة القصوى أدى لتحويل المبلغ لاعتماده الخاص بدلاً من اعتماد الشركة، وبذلك يحصل على فوائد تشغيل المبلغ، فمثل هذه الحركة لا تلفت الانتباه ويمكن تبريرها بخطأ يمكن تلافيه، ومدقق الحسابات لا يمكن أن يكتشف مثل هذا العمل الذي يقتصر بتنفيذه على شخص صاحب قرار.
كما أن هناك حالة أخرى لا يستطيع المدقق التأكد منها تتمثل بأن تلجأ الشركة لشراء بضائع بقيمة 100 ألف ليرة في حين أن قيمتها الفعلية 50 ألفاً، فينحصر عمل المدقق للتأكد من صحتها بموجب ما يقدم إليه من فواتير الشراء وموافقة محاسب الشركة والمدير عليها، لكنه لا يعلم بما حصل على أرض الواقع من تلاعب بهذا الخصوص، وللتأكد من السعر الحقيقي يمكن للرقابة الداخلية في الشركة أن تتابع الأمر بإرسال لجنة إلى السوق للتأكد من صحة العملية في حال اكتشفت وجود فرق بين الفاتورة المبرزة والسعر الرائج في الأسواق، ما يعني أن المدقق لا يقوم بالتدقيق الشامل وإنما يعتمد ما يسمى باختيار العينة العشوائية، حيث إن هناك آلاف العمليات في الشركات المساهمة خاصة المصارف وشركات التأمين، ففي حال شك بإحداها يدقق ببنودها لمعرفة مواطن الشبه على اعتبار أنه يحق له السؤال عن جميع التوظيفات.
تحكم
وفقاً للقوانين والأنظمة النافذة يجب على المدقق في حال اكتشف صفقات مشبوهة أن يبلغ مجلس إدارة الشركة لاتخاذ الإجراءات اللازمة، وإذا لم يعالج هذا الأمر، يقوم برفعه إلى وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، حيث إنه لا يوجد سلطة فوق سلطة مدقق الحسابات فيما إذا كان يقوم بعمله وفق أصول التدقيق؛ لذلك نجد أن كثيراً من أعضاء مجلس الإدارة لا ينتخبون مدقق الحسابات مجدداً في حال أشار خطأ ما أو إلى أمر قد لا يعجبهم، وفي هذا الخصوص يرى بعض المدققين أن ثمة خطأ قانونياً في هذا السياق يتمثل بأن التصويت على أي قرار في الهيئة العامة يكون بعدد الأسهم وليس بعدد المساهمين، بمعنى أن لكل مساهم أصواتاً بعدد الأسهم التي يملكها، وعلى اعتبار أن مجلس الإدارة يملك الحصة الأكبر من الأسهم يتحكم بالقرارات الصادرة عن الهيئة العامة ومن بينها انتخاب مدقق الحسابات.
يبدو أن هذا الخلل القانوني هو الثغرة التي يجب ردمها لضمان حقوق صغار المساهمين بشكل أكبر، كأن يكون لهم أكثر من ممثل في مجلس الإدارة بغض النظر عن عدد الأسهم التي يملكونها وذلك لمراقبة أداء العمل والمساهمة باتخاذ القرارات بحيث تنعكس نتائجها الإيجابية على الجميع، إلى جانب مراقبة أي سلوك أو ممارسات مشبوهة قد تودي بكيان الشركة ككل.
تبقى الإشارة إلى أن عمل هيئة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب يتلخص بشكل أساسي بتلقي الإبلاغات عن العمليات المشبوهة الواردة من جهات مختلفة كالمصارف وجهات إنفاذ القانون، وإجراء التحقيقات والتحليلات المالية للعمليات المرتبطة بها، وإحالة هذه الإبلاغات إلى الجهات القضائية المختصة في حال التأكد من الاشتباه بجرم غسل الأموال أو تمويل الإرهاب، كما تمارس الهيئة دوراً إشرافياً للتأكد من قيام المصارف والمؤسسات المالية وغيرها من الأعمال والمهن غير المالية المكلفة بالإبلاغ بالتقييد بالقوانين والأنظمة والتعليمات المتعلقة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
حسن النابلسي
hasanla@yahoo.com