أخبارصحيفة البعث

أوروبا والتغيير القادم

 

يبدو أن الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة في جادة الشانزيليزيه في العاصمة الفرنسية باريس، كشفت بشكل أو بآخر عن الواقع السياسي والاجتماعي الجديد في دول القارة العجوز، فبعد السيطرة المطلقة للأحزاب التقليدية على مفاصل العمل السياسي لعقود “يمين –يسار- محافظون- عمال”، ولدت جماعات جديدة بنهج متطرّف وأفكار شعبوية، ربما تُسقط، وبالضربة القاضية، كل أحلام الدول الأوروبية في الاندماج ببوتقة واحدة.

فجماعة “السترات الصفراء”، التي فاجأت الجميع دون استثناء في الشارع الفرنسي، استطاعت بفترة وجيزة ومن دون خلفية حزبية، وباستخدام وسائل التواصل الاجتماعي،  جمع آلاف الناقمين على السياسات الحكومية الفرنسية المتعاقبة، وتجنيدهم للخروج محتجين رافضين لكل القوانين والزيادات الضريبية التي تحاول حكومة إدوارد فليب ومن خلفها إيمانويل ماكرون فرضها، بل إنها أطلقت لأول مرة في تاريخ فرنسا الحديث حملة لإسقاط الرئيس الفرنسي خلال مسيرتها الاحتجاجية الثالثة المقرّرة غداً، فهل ما يجري في فرنسا هو بداية لمرحلة جديدة في القارة الأوروبية عنوانها: انكفاء الدول خلف حدودها، والتفكير بواقعها الاقتصادي والسياسي بعيداً عن الأحلاف والتجمعات القارية، أم هو للتنفيس عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي المترهّل، وربما المتهالك الذي تعاني منه القارة الهرمة؟.

ما هو واضح لكل المتابعين أن أوروبا اليوم تشهد تغيّرات بنيوية واجتماعية عميقة أدت خلال العقد الأخير إلى ظهور حركات راديكالية  متطرّفة في طروحها وأفكارها وتوجهاتها (ألمانيا “حزب البديل” وإيطاليا “حركة خمس نجوم” والنمسا وهولندا “حزب الحرية”)، واستطاعت خلال فترة قصيرة تحقيق اختراقات غير مسبوقة في التركيبة السياسية التقليدية، وإسقاط أحزاب تاريخية بالانتخابات البرلمانية، ولعل ما حدث في إيطاليا من استلام حكومة شعبوية للسلطة يؤكد ذلك، وفرنسا بالتأكيد ليست خارج هذه التوجهات التي تشهدها أوروبا.

ففوز الرئيس ماكرون، وإن كان يدّعي الانتماء لتيار وسطي، جاء خارجاً عن المألوف في الحياة السياسية الفرنسية التي تعوّدت أن يكون الرئيس، إما محسوباً على الجمهوريين أو اليساريين، واستطاع خلال فترة لا تتعدّى الأشهر تحقيق فوز كاسح بالانتخابات البرلمانية بأغلبية مطلقة، بعد تأسيس حزب جديد “فرنسا إلى الأمام”. وفي هذا السياق لا يمكن أن نفصل ما حدث في بريطانيا، والتصويت التي شهدته للخروج من الاتحاد الأوروبي “بريكست” عمّا ما يجري، فخروج لندن من الوحدة الأوروبية دفع بالكثير من الدول للحذو حذوها والانعزال.

أمام كل ذلك فإن التقليل من هذه الحركات وعدّها ظواهر مؤقتة تسقط بتقادم الأيام هو تحليل في غير مكانه، ونقل صورة مغايرة لما يطرأ في الداخل الأوروبي، وعليه فإن ظهور هذه الحركات والتيارات المتشدّدة يسارية أم يمنية، وبشكل متلاحق يؤشر إلى أن القارة العجوز أمام مرحلة جديدة من الاصطفافات والتحالفات التي قد تدفن حلم الوحدة الأوروبية إلى الأبد.

سنان حسن