استراتيجية ترامب في سورية.. فشل مسبق
يبدو أن إدارة ترامب قد تمكّنت أخيراً من صياغة الملامح العريضة، وليس النهائية، للاستراتيجية الخاصة بها تجاه سورية. استغرق الأمر قرابة أربعة أشهر على تعيين جيمس جيفري مبعوثاً للخارجية الأمريكية إلى سورية، وأقل من عشرة أشهر على تعيين جون بولتون مستشاراً للأمن القومي، وقد يستغرق وقتاً أطول بكثير بانتظار بلورة هذه الاستراتيجية ضمن صيغة ثابتة ومتماسكة بعيدة المدى، وخطوات عملية قادرة على الوصول بها إلى تحقيق أهدافها الموضوعة، وأطول أيضاً بانتظار إقناع بقية أركان الإدارة بها، ومن ثم السير في طريق تنفيذها عملياً، خاصة وأن المعنيين بتطبيقها هم جنرالات البنتاغون الذي لم يتردّدوا، منذ وصول ترامب إلى السلطة، في التعبير عن معارضتهم للخيارات العسكرية والأمنية المتهوّرة، وحتى السياسية، للإدارة الجديدة، وإن كانت تحرّكاتهم على الأرض، في أحيان كثيرة، أشد تخبّطاً وعدوانية منها.
على امتداد فترة زمنية طويلة بدأت مع محاولات السفير السابق روبرت فورد إذكاء نيران الأزمة والقيادة -عن بعد – للتنظيمات الإخوانية المسلّحة وتقديم الاستشارات الميدانية والتكتيكية لها، تطوّر الموقف الأمريكي تجاه سورية عبر منعرجات صعبة وملتوية.. هو تأسس مبدئياً على الخوف من “التدخل المكلف” في الحرب على سورية انطلاقاً من فشل كان لايزال طازجاً على مستوى التجربة العراقية، ومن ثم اعتمد الالتزام السري والعلني بدعم الجماعات الإرهابية – على اختلاف مرجعياتها – بالوكالة، وتزويدها بالعتاد والأسلحة “غير الفتّاكة” من خلال غرف “الموك والموم” الشهيرة في الأردن وتركيا، ليصل في عهد الإدارة الحالية إلى حشد الأساطيل والقصف الجوي وبناء القواعد العسكرية الثابتة وطرح سيناريوهات مستقبلية مشبوهة؛ وأخيراً، فك الارتباط بين بقاء القوات العسكرية الأميركية والقضاء على تنظيم “داعش” – كيافطة رسمية معلنة – وتعطيل الحل السياسي من خلال إطلاق إنذارات خلبية، والإعلان من طرف واحد عن “موت” مساري أستانة وسوتشي، مرفقاً بالدعوة إلى “العودة” إلى محادثات جنيف، الذي أشبعته الإدارة الأمريكية السابقة والحالية استهتاراً وتجاهلاً، وذلك كآخر صرعة من الاستراتيجية العتيدة التي يتكشّف، مع كل خطوة منها، أنها مشبعة بالارتباك وروح المغامرة، وأنها تعكس الكثير من عدم النضج والغطرسة غير المجدية، بل وتنطوي على فائض من الاستخفاف والاستهانة بـ “الوكلاء المحليين”، والاستعداد للتضحية بهم والمجازفة بمصيرهم ومستقبلهم في سياق نوع من التجريب السياسي والاستراتيجي الذي لم يستوعب حتى الآن – وهو يرفض ذلك ضمنياً – أن ما تحقّق من انتصارات للجيش السوري على الأرض، ومعه الحلفاء، إنما يندرج بالفعل في سياق موجة ارتدادية طويلة، ومد تاريخي معاكس لن يتوقّف عند حدود استعادة وحدة وسيادة الأراضي السورية، أو إعادة شد عصب الوطنية السورية بأبعادها القومية المجدّدة، بل يتجاوز ذلك إلى العمل على بناء نظام إقليمي وعالمي جديد لن تكون الولايات المتحدة الأمريكية فيه – ومعها حلفاؤها أيضاً – في موقع الإملاء، أو التفرّد، عداك عن القيادة الأحادية أو المطلقة، وهذا دون التطرّق إلى احتمالات إعادة التفكيك والتركيب انطلاقاً من حقيقة أن آفاق الهزيمة الاستراتيجية مفتوحة على كامل اتساعها، وأن مثل هذه الهزيمة تنتهي، دائماً وأبداً، إلى تصدّعات واقتطاعات ذات طبيعة جيوسياسية.
يمكن لواشنطن أن تلعب دوراً معرقلاً، كما من المفهوم تماماً أنها لن تغادر خالية الوفاض حتى ولو كلّفها ذلك محاولة الدفع – محاولة لن تكون مجدية بالنهاية! – باتجاه التقسيم أو الترويج للفيدرالية، أو حتى إطلاق جولة أخرى من الفوضى في المنطقة، معمّمة هذه المرة، ولكنه سوف يكون تعطيلاً مؤقتاً، ولا يملك القوة الكافية التي ترقى به إلى مكانة “فيتو” يمكن إشهاره عند الضرورة الأمريكية أو الإسرائيلية.
لا تعكس لهجة الإنذار الأمريكية، المغالية في استفزازها، حقيقة التوضّعات على الأرض، ولا القدرة على تحويل مسارها.. هي تعبّر عن ثقة استراتيجية جد متأخرة، وفي غير محلها، ومرشحة للتداعي والانهيار في اللحظة التي تجد فيها سورية – ومعها حلفاؤها – أن التوقيت بات مناسباً لإطلاق الجولة الأخيرة من مكافحة الإرهاب الذي تجد إدارة ترامب نفسها مضطرة لمحاربة من يحاربه تحت ضغط الخيارات المحدودة.. وتلك أولى الملامح المسبقة للهزيمة.
بسام هاشم