ثقافةصحيفة البعث

ملامح من الشمال

ندى محمود القيم

يسمونها في الحي “الجارة الجديدة”، السيدة التي تحمل هوية وسند إقامة لا يمت للمدينة بصلة قرابة، ولقبا يدل على انتمائها يشار إليه بالأصابع.. شأنها شأن أي زائر جديد يحلّ بكامل وجوده في مكان ما، تراقبه العيون من خلف الشبابيك ومن على الشرفات الباردة.. ها هي لقد جاءت.. كم عمرها يا ترى؟ ماذا تعمل؟ هل لديها أقارب هنا؟

لقد مرّت الفترة الأولى بحذر، الكل يترقب منها أي شيء، ربما لم تكن التوقعات تبشّر بالخير، لكنّ السلام لله ولا بدّ أن تبادر بكلمة ما.

“مرحبا” يفهمها الجميع ويقبلها، كلمة تكسر حاجز الارتباك وترطّب المناخ بلطف  وخاصة إذا رافقتها ابتسامة خفيفة، لقد كانت هذه الكلمة مفتاحا لأبواب كثيرة لاحقا.

تجربة الجيران مع السكان الجدد عادة ما تبدأ بسكبة شهية، طبق طازج والكثير من البهارات التي تشتهر بها المدينة.. هذه العادة الدافئة جرّت وراءها أطباقا وأحاديث وحكايات.. كيف يمكن توطيد العلاقات بطبق طعام مثلا؟

في السياسة الأمر هكذا تقريبا، خطوة إيجابية أو اتصال هاتفي أو برقية تهنئة بالعيد الوطني.. مبادرة بسيطة قد تنهي خلافات قديمة وتحلّ مشاكل عالقة، لكن هذا قليلا ما يحدث، كلّ ينتظر الآخر وفي كل مرة يطول الانتظار ولا ينتهي إلا بتدخل أطراف أخرى أو بحرب يظفر بها الأقوى.. الأقوى وليس الأحق. “لو أن الدول الكبرى تتبادل السكبة والأطباق الطيّبة أيضا وتتوقف عن التراشق بالبيض” هكذا حدثت نفسها.

بعد عدة سنوات أصبحت من أهل البيت، الكل يسلّم عليها ويحبها.. بائع الخضار واللحام وصاحب محل الحلويات الذي تمر به دائما، لكنّ لقب الجارة الجديدة لم يفارقها، حتى أنهم لم يسألوها عن اسمها،  بمجرد أن تحضر، تعرّف عنها ابتسامتها وملامحها التي تثير الجدل، فهي لا تشبه ملامح منطقتها.. هناك في شمال البلاد.

لا شك أن الكثيرين انزعجوا من وجودها بينهم في البداية، صحيح أنها بنت البلد لكنها تبقى غريبة والمنطقة الشمالية يحدث فيها الكثير هذه الأيام.. حرب لم تنته وضحايا وقطّاع طرق لا يعرفون الرحمة، على عكسها هي، سيدة تضجّ بالسلام وتنشره كلما أتيحت لها الفرصة.. كيف يمكن أن يخرج كل هذا الحب من قلب يشتعل بالنار؟ كانت هذه الأحاديث تدور في جلسات أهل الحي، السياسة مرة أخرى، الطبق الذي يحتل الموائد على الرغم من مذاقه السيئ.

كان عيد رأس السنة على وشك الوصول، زيّن السكان حيّهم بالأضواء وعلقوا آمالهم على شجرات العيد الصغيرة في الدكاكين والبيوت، لكن هي اكتفت بشتلة حبق خجولة على الشرفة، وظلت تسقيها كل يوم حتى انهمر الثلج على المدينة وغطاها، فلم تعد تشبه شتلات الحبق  ولا شجرات العيد حتى.. كانت بيضاء نقية ولا تميل بقامتها إلى أي اتجاه، تماما كملامح صاحبتها التي لا تشبه الملامح هناك.. في شمال البلاد.