ثقافةصحيفة البعث

إضاءة في نص الشاعر محمد كنايسي “رذاذ”

رذاذ/ يراقص شمسا سعيده/وعين/تحدق في ذكريات/البلاد البعيده /وليس لديك المزيد/من الكلمات/لتكمل هذي القصيده

يا شاعرنا الجميل إن اكتمال القصيدة -في نصك الراهن المكتمل-  هو في انقطاعها المفاجئ. هذا الانقطاع/ المفاجأة.. ترك:

حيرة لذيذة عند المتلقي ونشوة لم تكتمل تطلب المزيد فلا تجد، فتستلذ بما أُتيح لها. وترك حرية متاحة ليكمل المتلقي اللوحة لكنه لن يستطيع، فيعود يتجلي النص من جديد. هذا هو الجمال المباغت الذي يهيمن على الذات الشاعرة حيث شهوة وجوع الخلق الشعري، لكن النص لا يكتمل.. صورتان متاحتان ثم تتلاشى الصور ولا تأتي الكلمات فيقف الشاعر حائرا ولا يهتدي السبيل إلا إلى حيلة الانقطاع الجميل.

الشاعر في هذا النص شابهَ الرسامَ التشكيلي وأمسك بفرشاته الرشيقة وانحاز إلى مشهدية مرسومة ومخططة بسرعة ونفاذ رؤية.. خطوط سريعة مكتملة ببساطتها لا تتوغل في التفاصيل، إلا عبر ألوان وضربات هي كلمات وصفية، فالشاعر الرسام خلق لوحته وتبناها بما ضمّنها من رمزية وامتداد أو تقابل بين جزأين يمثلان تداخلا كامنا وخارجا ظاهرا وذلك عبر الخطوط السريعة والكلمات الوصفية. هذا اقتصاد في الكلمات والرسم التعبيري وهو في حقيقته امتناع وتمنّع محْكَمٌ أدى غرضه.

(رذاذ)

حالة من الحلم المتجزئ، المتوزّع الذي يحمل نشوى الروح والوقت، فالرذاذ بلورات شفافة تبلل روح الإنسان وعالمه وتداعبه بمشاعر ترطب وجوده الروحي الإبداعي وتدغدغ صلصال الطين فيه، وتبرز فاعليته هذه في احتفالية النشوى:

(يراقص شمسا سعيدة)

يمكن تمثّل هذه البلورات المندّاة بلونيها الأبيض والأزرق الشفافين المتداخلين وهي تتنزل في حركتها العمودية الرقراقة المنسابة، كما يمكن تمثل دائرة الوجود “شمسا”.. وبضربات اللون ومرونة وإيحاء التشكيل وإلحاق صفة “سعيدة” هنا تم تشكيل جزء أوليٌّ من اللوحة الشعرية، وهو جزء مبهج  تختلف أبعاده، ويجمع بين متقابلين شموليين للأفق.

رطوبة وبلل ونداوة (رذاذ) وما يقابلها من يباس وتجفيف (شمسا).. والرذاذ هنا لا يفصح عن مصدره الرافد، وحين نتخيل المصدر لن نقف في صورة خيالية واحدة، لا سيما أن هناك فعلا واحدا قد ربط بين هذين الكائنين الرمزين الجميلين وهما رذاذ وشمس. ويظل للتنكير جماليته في (رذاذ، شمسا سعيدة) التي تستثير فينا أكثر من سؤال وتستحث فينا البحث عن طبيعة الرذاذ وطبيعة الشمس، فهما مجهولان.

(وعين)

وهنا يبدأ الجزء الثاني من اللوحة حيث تتسق بداية النص المباغتة في رسم الجزء الأول من اللوحة الشعرية مع الجزء الثاني، حين يبتدئ النص بكلمة نكرة (رذاذ) وتلحقها ضربات وصفية عبارة عن فعل مضارع وإن كان فيه تشارك عبر (تراقص). وهنا ينعطف الجزء الثاني بكلمة نكرة هي (عين) عين تتمثل مفتوحة الرموش والجفنين على رؤية ما.

(تحدق في ذكريات/ البلاد البعيدة)

التحديق هو التركيز وإطالة النظر، لكن العين المحدقة هنا تأتي في الرسم الشعري مفردة، لا مثناة، مما يقوي من جمالية التشكيل بالإثارة في اللوحة، ولكن التحديق هنا أيضا هو تحديق في غير المرئي الحسي، وهذا ما تؤديه كلمة ذكريات، فهناك تشكيل هلامي ترسمه كلمة الذكريات حينما تحدق فيه العين، فالذكريات لا تتشكل حسيا ولا تحد ولا تنتهي ولا يمكن اصطيادها وحبسها في مجال الرؤية البصرية. إذن هناك إشراقات وتجليات تحملها اللوحة تنعكس في العين المحدقة، لكن هذه الذكريات تتصل بموطن هو (البلاد البعيدة) حيث يمكن أن تتشكل في هلامية الذكريات بيوتا وشوارع وطرقا وأناسا ومجريات بما تمثله من خصائص القرب والبعد والتذكر والاستدعاء والتجلي والخفاء، وبما تخبئه من حمولات وجدانية أو فكرية شخصية أو عامة.. هناك تشكل لا نهائي في اللوحة الشعرية موسوم بغموض هذه الذكريات، وهي ذكريات تتعلق ببلاد بعيدة لا يمكن الوصول إليها والوجود فيها، رغم تمثلها.. لتظل الرسمة مكتنزة بمتغيرات خيالية خلاقة متجددة، فمع خاصية الانقطاع عن استكمال اللوحة؟ هناك أيضا غموض في الخطوط والحدود لتظل اللوحة الشعرية تتخاطف وتزيد الشاعر، والمتلقي حيرة وانفعالا باطنيا لا يستقر فيها الخيال على صور أو حال نهائي، وهنا ينبري الشاعر الذي عجز عن رسم الخطوط والحدود الحاسمة والثابتة ليخاطب نفسه.

(وليس لديك المزيد/من الكلمات)

يخرج الشاعر عن حالة خلق الأمور بشكلانيتها وتمثلها، ويعود إلى نفسه مخاطبا، فهو يعيش حالة باطنية خفية من الخلق الشعري، ولكن الكلمات تستعصي والرسمة اكتملت بحدها النهائي ولا مزيد. لا التقاطات من عالم الخلق الشعري لا صور ولا كلمات، انتهت اللوحة، الشاعر يقابل نفسه ويعترف بعجزه أو إدراك طموحه الشاعري..

(لتكمل هذي القصيدة)

القصيدة تكتمل بهذا الاعتراف والتسليم والاستسلام، لتبقى الدلالة المطلقة والأكيدة  أن للشعر ولكل قصيدة متطلبات وحالة تشكل خاصة، وأن دور الشاعر الأكبر هو التهيئة وتوفير الزخم المعرفي الفني والوجداني واستكمال أدواته ما أمكنه ذلك، علّ القصيدة تواتيه بخيراتها وثمارها ويتسقّط ذلك عليه وبين يديه.

وأخيرا

كان- مع ما مضى من دور- دور فعال للوقع الموسيقي، بما تضمن من موسيقى الفعولن، وانتظام القافية بما يشبه التنهيدة في إنقاذ القصيدة وتخليصها من السقوط والسذاجة ومجانية التعبير والتأثير. إن الشاعر أكمل قصيدته خلاف ما يطمح ولكنها جاءت تنبئ عن حالة إبداع وحالة غربلة فنية وحالة إحالة يتطلع إليها الشاعر المبدع ليكتب قصيدته بنجاح فهو يظل مترقبا متوجسا، يلتقط مشاهد ومظاهر الحياة والطبيعة ويمزجها بمزجه الخاص الحسي والمعنوي عبر مختبر الخيال والانفعال بغية إدراك حالة الخلق الشعري المثير والمنير والمكتمل.

محمد صالح محمد