ثقافةصحيفة البعث

شجرةُ الحياة الدّائمةُ الخضرة

 

ليستْ العلاقة بالمؤنّث علاقة مشاطأة مع الضفّة الأخرى للذّاتِ البشريّة وحسب، ولا العلاقة مع الأنثى مجرّد وقفة طلليّة، تهتدي بمسار الأقدمين الشّعريّ، وهم يسكبون احتراقاتهم الضّبابيّة على ظلالِ حبيباتٍ متخيّلاتٍ، وليستْ تبرّجاً تتزيّاه اللّغة، وقد وقعتْ في عشق ذاتها، ممتدحة قدرة كاتبها على اللّعب بالكلمات، وتفنّنه بصنوف الغزل والتّشبيب والصّبابة، وهي بعيدة عن الدونجوانيّة والكازانوفيّة والفحولة الإغوائيّة التي تعكس أمراضاً نفسيّة أشبعها علم النفس تحليلاً وتفكيكاً. كما أنّها ترفض الحالة القهريّة المسلّطة على جوّانيّة الكائن العاشق ومثالها التاريخيّ “الحبّ العذريّ”، فهي ببساطة ذاك الوجود العالي للذّكورة وقد تثقّفتْ حدّ الإشباع بوجهها الآخر الأنثوي. وهذا بدوره يعيد تسليط الضّوء على طرفي معادلة الخلق الأولى “المرأة والرجل، آدم وحواء، الذّكر والأنثى، الأنيموس والأنيما، الين واليانغ” التي إذا لم نعمّق فهمنا لها، فسنبقى ضحايا ذواتنا المغتربة المنقسمةً على نفسها. إذاً لابدّ للعبور إلى الآخر فينا من اجتياز برزخ المجافاة الذي خلقته ثقافة التبعيّة والأعراف المتخلّفة التي تحطّ من شأن المؤنّث، وتجعل الأنثى مجرّد تابع للذكر. ولعلّ الشّعر هو إحدى هذه المبادرات الثقافيّة الجمالية الخلّاقة القادرة على تصويب اتجاه البوصلة بحيث لا تبقى الأنثى رهينة مصطلح الفتنة بمعنييه المتناقضين “الشّيطنة والجمال” ولا هي وسيلةً للتشهّي والاغتلام، فالأنوثةً أعمق من ذلك بكثير، إنّها الرحم الكوني المحيط بنا الذي يمدّنا بأوكسجين الحياة واستمراريّتها. والشّاعر محمود عزيز إسماعيل في مجموعته الثالثة الصّادرة عن الهيئة السورية للكتاب 2018م بعنوان “إلى آخر العمر أنتِ” يعيدنا بقوّة للتفكّر مليّاً بتلك المعادلة الجوهريّة للحياة في زمنٍ جفّتْ فيه المعايير والقيم أو كادتْ، فهاهي قصائده المشبعة بماء الوجد، تشي بكلّ ما نحاول قوله في هذه القراءة عن تلك العلاقة التفاعليّة، التّكامليّة للمذكّر والمؤنّث، فهي لم تأتِ من باب رفع العتب للاعتراف بدور “الزّوجة” الكبير في جعل الحياة مستطاعة، وحسب، بل وفي غمرها بكلّ المعانى السّامية، وبأنّها طاقة لا تنضب على الخلق المستمرّ. ذلك عبر إعادة تصويب مجرى الثقافة الضّالة نحو النبع دوماً، فمنذ العنوان القطعيّ الممتلئ وضوحاً (إلى آخر العمر أنتِ) مروراً بالإهداء الاستهلالي (إلى وسام، حوّائي التي أحبّ) وحتّى آخر نقطة مطر في ميزاب البوح الشّجي للقصائد الداخليّة، والشاعر لا يفتأ يؤكّد مقولته تلك. يقول غوته: “النظريّات كلّها ذابلة، وأمّا شجرة الحياة فخضراء على الدّوام” ومن هي شجرة الحياة إذا لم تكن المرأة؟!. هاهو الشاعر في لحظة اعترافٍ قصوى بأهميّتها ودورها الكبير في إضفاء أعلى القيم على الحياة التّشاركيّة، يقول: (لمن أهوى ضيا عيني وروحي، وأغلى النّاس أوفاهم وسام). ثمّ يتقمّص “قيساً” عابراً للعصور ليبثّ لواعجه “لليلاه”: (كلّ العصور بلا ليلى سراب سدى، وأنت ليلاي، فيكِ كلّ أزماني). ثمّة وجه ثقافي متخفٍّ في مرايا القصائد هو ما يعكس طراوتها ومعاصرتها رغم تطرّقها لمواضيع مألوفة كثيراً، وميزته بأنّه يُعلي من مناقبيّة الكائن النقي، والقيم النّبيلة، في زمنٍ التّسطّح والاستهلاك إزاء هذا الانهيار الكلّي في المنظومات القيميّة.
يحاول الشّاعر إعادة اللّحمة للذّات الإنسانيّة المشروخة، وترميم التمزّقات التي أنهكتْ جسد وروح الكائن. ولعلّ من أهم مزايا قصائده، تلك الجرعة الوجدانيّة العالية التي صبّها في حنايا كلماته، واعياً بأنّ المجاز والمخيّلة لوحدهما غير كافيين لاكتمال معادلة الشعر.
في الشعر تفرح اللغة وتتنفّس بعمق، متخارجةً من سلبيّة إنشائية جافّة استُهلِكتْ من كثرة التّداول إلى ألفةٍ ماطرة، لتشكّل ملاذاً حيويّاً لروح الشاعر القلقة وقد استحمّتْ بماء المؤنّث، وهذا لا يعني إغراقاً في الشّكلانيّة الأسلوبيّة أو الأداء الإيقاعي المجّاني، فاللّغة “بيت الوجود” حسب “ايدجر” يقول الشاعر: (أموتُ بليل عينيها وأحيا/إذا ما استيقظتْ وأطلّ صبحُ/ أأحيا في الجوار؟ وكيف أحيا/وتكتبُني متى شاءتْ وتمحو).
الشعر عند محمود إسماعيل حالة حلميّة تذوقيّة، على مبدأ المتصوّفة: “من ذاق عرف” لذلك هو يحرث خطوط حقله جيّداً، يفرز الغثّ من الثّمين بعناية، وينقّي الزّؤان من الحنطة بانتباه، وهذه مقولة أكّدها يوماً القاضي الجرجاني بقوله: “فأمّا وأنت تقول هذا غثّ مستبرد، وهذا متكلّف متعسّف، فإنّما تخبر عن نبوّ النفس عنه، وقلّة ارتياح القلب إليه”، هاهو يرتشف كلماته من فم البرهة الهاربة في لحظة مكاشفة، مناكفاً “حنّا” الرحابنة بتشكّكٍ محبّب: (مرّت بنا الأزمان كالحلم يا حنّا، قلْ من السكران؟ من يا ترى منا؟).
يؤمنُ بعض نقّاد الشعر بأنّ توتّر الصورة الشعريّة هو من يهبها ديناميكيّتها وحيويّتها ويؤجّج المخيلة. حيث تنكسر من خلاله حالة المطامنة والاسترخاء، لتحلّ محلها حالة من الشدّ والجذب للمتلقّي الذي هو غاية الكتابة الشعريّة ومبتغاها. يقول الشريف الرّضي: “وتلفّتت عيني فمذ خفيتْ عنّي الطّلول تلفّتَ القلبُ” لكنّ شاعرنا لا يقف على الطّلول الدارسة، بل يغذّي عشقه الصّوفي متملّياً بألحاظ غزالات المؤنّث وخطراتها، ساعياً لارتشاف المزيد. يقول: (وتلفّتتْ ما في البلاد سوى الهوى، قد جفّ صوفيٌّ وتاه رضيع، همستْ، فصاخَ الكون يسمع همسها، أومتْ فكل العالمين يطيعُ) ويقول أيضاً: (همست فغرّد ألف حسّون، وأزهرت الخميلة، من بدء هذا الخلق..آدم عاشق بل غارق، بالعشق، والتفاح حيلة).
في محراب المتصوفة، وجد الشاعر ضالته فتقمّص دين المحبّة الذي يتّسع للجميع بعد أن ضاقت المذهبيّات وغدا التعصّب الأصولي عنوان المرحلة يقول: (إنّي إلى دين المحبّة أنتمي، ما نفع دين يستبيح أخاك). إنّه يسير مثلهم على حواف البرزخ إلى أقصى التيه. يقول: (كقبرٍ تضيق الحياة عليك، يمينك جرفٌ، يسارك جرفٌ، أمامك جرفٌ، وخلفك جرف، إلى أين تمضي؟) وينتهي به المطاف إلى تشكك نسبيٍّ باليقينيّات، وربما هو يفتّش عن يقين جديد، من يدري؟، يقول: (فلا الأيام قد رقّتْ وراقت ولا حنّت لعيسى خشبتاه، مآربنا وقد تاهتْ وتهنا وكم منّا ستهلكه عصاه). كما تبدو تأثّرات الشاعر التراثية واضحة وتحديداً بالنّص المقدس، كنصّ كلّي غرف منه كلماته ووظّفها بما يخدم رؤيته الشعريّة “جنة ونار، وحواء وآدم، وهاروت ونوح، ليلة القدر، الفردوس، الحور العين الخ..”. يقول: (جفّ حقلي يا إلهي وغصون البوح قد صارت حطب، نار إبراهيم صارت غيمة، وأنا غيمي بأضلاعي لهب).

أوس أحمد أسعد