هدية عيد الميلاد.. طفل يريد علكة!؟
د. نهلة عيسى
استيقظت على صوت رنين جرس الباب مستعيذة بالله من الشيطان الرجيم, لأن هاجساً في داخلي كان يقول: أني سأفقد اليوم شيئاً!؟ فتحت الباب لأجد أمامي طفلاً لا يتجاوز عمره الثلاث سنوات وبيده ورقة مالية, وبتكلف الكبار انحنيت نحوه, وقلت: نعم حبيبي؟ فرفع في وجهي ما في يده من مال, وقال: “إلكة” وفهمت إنه يريد “علكة”, وطبعا كمعظم السيدات العاملات كان في حقيبة يدي علبة لبان, فركضت نحو الحقيبة وأخرجت علبة اللبان وبضع حبات “شوكولا وبنوبون”, وبحثت عن علبة بسكويت أعرف أنها لدي, وهكذا جمعت للصغير كيساً من الحلويات وعدت إليه به غانمة ظافرة وأعطيته له, فنظر في الكيس المليء ولم يلمح اللبان, فعاود القول بإصرار: “إلكة”! فأخرجت له اللبان من قعر الكيس، فابتسم, فوضعت له اللبان في قمة الكيس ورددته إليه, فرفع مرة أخرى الورقة المالية إلي, فقلت له: لا لا حبيبي أبقها معك, هذه مني هدية, فرمى الورقة في وجهي, ثم تناول اللبان من الكيس ووضع باقي ما فيه على الباب وأنا في حالة ذهول, ثم بدأ بالنزول على درج العمارة, فلاحقته والكيس والمال في يدي خوفاً عليه من الوقوع, وسمعت أصواتاً بدأت تتعالى في الطابق الأدنى, فعرفت أنها لا بد أصوات متعلقة بفقد الطفل, فناديت لا أعرف لمن: لا تخافوا هو هنا يبحث عن دكان, وقد كنت أنا الدكان!.
هرعت والدة الطفل وسط كوكبة من عائلتها لاحتضانه وفي عينيها ملامح الدموع, وصوت ذكوري ربما لأبيه, يقرّع الأم ويتهمها بالإهمال, وترد الأم: “اركيلتك” السبب! ورأسي صار كالطبل وأنا أردد: حصل خير, هو يبحث عن الدكان ولحسن الحظ أنه اختارني دكاناً, هذا كيسه وهو مني, وهذا ماله, فجأة جر الطفل نفسه من حضن الأم وفمه ممتلئ على آخره باللبان, وانتزع ورقة المئة ليرة من يدها ورفعها مرة أخرى في وجهي, وكأنه يقول لي: “منيتك على حالك”, هذا مالك! فضحكت وحاولت تقبيله فرفض, وكأنه يحدد نوع العلاقة بيننا, بائع وشارٍ دون منة!.
عدت لبيتي الذي تحول إلى دكان, وتصرفات الطفل عزيز النفس في بالي, وتساءلت: إن كان هؤلاء هم أطفالنا, فمن أدخل الشياطين إلى وطني, من باع الأرض وجعل زناة الليل حكام خط سباق الموت المفروض علينا, من غسلنا بالفجائع, من جعل القلب حجراً, والدمع حجراً, وصور الشهداء, الإعلان الوحيد عن الإصرار على الحياة, وعلى النصر المرجو ولو بعد حين؟
عدت لبيتي والطفل في بالي, وعشرات الأسئلة بلا أجوبة, لأن لا أحد في بلادنا يملك جواباً, ولكني فرحت أني رأيت أمام عيني جذراً أخضر ينمو في وطني بكرامة, جذر يقاوم المخرز, ويؤكد أننا بلد لا يمكن لآبار النفط أن تحرق تاريخه وحضارته وعنفوانه, وأن التحليق على مدار ثماني سنوات في سماوات الوجع, لا يمكن أن تحوّل الحي إلى مقدد, والمسدس إلى وثن, ومن قتلونا إلى “بابا نويل”, حتى لو كنا في لهفة إلى فرحة الميلاد من جديد.
ونحن في الميلاد, وقد كان هذا الطفل “بابا نويلي”, وبشرة خير بأن أمسنا بكل قبحه, لم يصب أطفالنا بالشلل, ولا اليقين يخالطه سراب, ولا الحدود الوسط ملاذاً, على حساب دماء الشهداء, ولا الطريق إلى الفجر ليلٌ طويل, الدليل إليه قناص, أو جلاد, أو قاطع رؤوس, وفي أحسن الأحوال ممول, أو داعم, أو متورط حتى أخمص أذنيه في ليل موتنا البهيم الطويل!
الطفل التائه الذي حولني إلى دكان, كان يسوعي في الميلاد, أنزلني عن صليب الآلام, ووضعني على آرائك الأمل بأن قادم الأيام في الوطن ليس ملكاً للقتلة, ولا للمستفيدين في الخارج والداخل من القتلة, وأن الرب الذي ظلل “العذراء” بنخلته, يظلل هذا الوطن بملايين أشجار النخيل, ليولد مليون يسوع ويسوع, يصلبون على حدود الوطن, وبدمائهم يشترونه ولكن لا يبيعون.