يا طبيب تعال الحقنا!؟
د. نهلة عيسى
بصدق كنت اليوم سأتحدث عن الحب, كنت سأروي لكم: كيف غافلني القلب وتبادل الابتسامات مع الغد, لكن سرعان ما غدرني الغد, عندما تصاعدت سحب دخان أسود من الشرفة الملاصقة لشرفة منزلي, فتوجست شراً, ورميت الغسيل الذي كنت بصدد نشره, وهرعت نحو باب منزل جيراني, يسابق طرقي على بابهم خطوي, ففتحت جارتي بابها وملامح الرعب على وجهها, وسارعتني بالقول, بل بالصراخ: خير.. خير؟ قلت لها بهلع شديد: لديك حريق في إحدى الغرف, الدخان الأسود ملأ سماء شارعنا, فغالبها الضحك حد السعال, وتهاوت على الكنبة القريبة تستجمع شتات ضحكاتها وتهدج أنفاسها, لتقول: “يا شيخة قطعت نسلي”, أنا أطبخ على منقل الفحم لأنه ليس لدي جرة غاز منذ أيام, وكما تعلمين ليس لدينا كهرباء لنطبخ على السخانات, و”الحالة تعبانة يا دكتورة, ونحنا دراويش وحكومة ما فيش”, فهل لديك حل؟ فرددت عليها بطريقتها: “لو كنت طبيب الهوا لوجدت لقرعتي قبل قرعتك دوا, فدعينا نغني معاً: يا طبيب تعال الحقنا شوف اللي جرالنا, لعل وعسى”!؟
بعد الفزع والضحك الذي ثلثاه وجع, عدت إلى منزلي لافترش الأرض, مثلما كانت تفعل أمي عندما تريد التلهي عن حزن الحاضر بالرحيل إلى الماضي, لأفتح خزائن الأحلام الممزقة, ارتقها وأرقع معها ثقوب ذاكرتي بحكايات أمي الجميلة, عن الشاطر حسن والجليلة والزير, وذاك القزم الذي يخفي في داخله أميراً, ولأحيك من الوهم قصص حب, كالتي روتها لي يوماً, ليس فيها وحش, ولا غول, ولا ذئاب, ولا آهات, ولا عتمة, ولا أصحاب قرار يدفنون رؤوسهم في فروات الادعاء بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان!!
كنت سأكتب عن الحب, ولكن داهمني الدخان, وأدخلني في حالة غريبة, هجينة, مزيجاً من البلادة والأرق والوجع, ومن الترفع المرقع بالسخرية, وبقايا صبر صدأ بفعل التكاثر الأرنبي للأيام المهينة, حيث لا كهرباء, ولا غاز, ولا مازوت, أي عتمة وجوع وصقيع, وفي العتمة والجوع والصقيع ليس للحب, ولا للدكتوراه, ولا للذكريات الجميلة عن الزمن الذي كان, فبقايا صور الذاكرة عن ذاك الزمان, ضاعت في زحمة الهرولة بين عزاء وعزاء, وجريح ومعاق, وجندي تطبطب على كتفه, وتتمنى لو ترتمي في حضنه معتذراً ممن جعل السلاح, البرد, الوحدة, حبيباته الوحيدات لثماني سنوات!!
كنت سأكتب عن الحب, لكني انشغلت بنصوصنا على مواقع التواصل الاجتماعي تتصارع لماذا منتخبنا الكروي لم يفز؟ والكل يحاول اكتشاف أسباب الجريمة!؟ ولا جريمة في نظري أكبر من أننا نتوقع الفوز, ولا خطة في بلادنا يمكن أن تقود إلى الفوز, ليس في الكرة, فتلك قضية ربما صغرى, ولكن في كل ما يجري وجرى, فعرائش الياسمين احترقت, والأشجار تعرت, والفراشات تحنطت بفعل النار, وفعل التغاضي عن النار, وفعل أحزاننا التي ملأت البحر, ولا عزاء للبحر, لأن قادة مراكبه على الموانئ يصدرون التصريحات: أن كل شيء بخير, والنوارس تملأ السماء, ولكن البحارة (نحن) يعانون دوار البحر وثمالة سهرة المساء, فمن نصدق يا رعاكم الله, البحر أم قادة المراكب!؟
كنت سأكتب عن الحب, لكني تذكرت أننا في الساعة المئة بعد المليون من جرح الوطن, ورصيف الصبر يضيق بنا, ننتظر على ضوء شمعة, وببرود يشبه الخيبة, أن تنعى إلينا أنفسنا, لأن طهاة حياتنا لا وقت لديهم للرد علينا, لنعرف لماذا يجب أن نعتبر الظلمة صديقاً, ولماذا نحن مجبرون على العيش في طوابير, ولماذا الصقيع بات أسلوب حياة, ولماذا كان المقابل للنصر على جبهات القتال, موت يراعات الفرح على باقي الجبهات, لئلا يبقى في الوطن جذر أخضر, يمكن أن يورق من جديد!؟
كنت سأكتب عن الحب, ولكن الوجع صار توءم روح, ومداد قلم, وماجرى ويجري, جعل كل واحد منا, يشعر أنه يتيم, وأنه ليس في إنائه, ولا محيطه, ولاحتى في وطنه, الذي لطالما كان مظلته من أمطار الخيبات واللعنات والأحلام المكسورة, ولذلك سيبقى.. على لساني سؤال, أشبه بالوشم, أيها الرب: قلوبنا باتت رصيفاً, لم تبق قدم حزن في العالم كله لم تطأه.. فهل من تغيير؟