دراساتصحيفة البعث

العقوبات الأمريكية.. سلاح للمنافسة الدولية

د. معن منيف سليمان

تعتمد الولايات المتّحدة الأمريكية سياسة العقوبات سلاحاً استراتيجياً للمنافسة الدولية ضدّ خصومها بدلاً من الانخراط في حملات عسكرية مكلفة وغير مضمونة العواقب، وتهدف عادة إلى معاقبتهم على مواقف أو سياسات معينة، أو التأثير عليهم لإجبارهم على تغيير سلوكهم، أو القضاء على إمكاناتهم العسكرية كونهم يشكّلون خطراً على المصالح الأمريكية في العالم. وتعدّ العقوبات الأمريكية فرصة لتعزيز الاقتصاد الأمريكي، وإعطاء مجال أكبر لعمل الشركات الأمريكية في الخارج. وتوسعت إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في استخدام العقوبات لإخضاع كل من يتخذ قراراً يتعارض مع مصالحها، حتّى لو كانت هذه الدولة حليفة للولايات المتّحدة، حيث تحوّلت العقوبات إلى سلاح مفضّل لواشنطن تستخدمه لتركيع أعدائها وإرهاب حلفائها، غير أن هذه السياسة وإن حقّقت بعض النجاحات هنا وهناك، إلا أنها أخفقت بشكل عام ولم تقد إلى النتائج المرجوّة. وتبقى سياسة العقوبات الأمريكية تمثّل تهديداً كبيراً ليس لاقتصادات العالم فحسب، بل ولنسيج السياسة الدولية ككل، فيما تعدّها واشنطن الأمل الأخير في الحفاظ على عالم القطب الواحد الذي ترفضه جميع الدول ذات السيادة.

إن الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، ويمثّل حجر الأساس للنظام المالي العالمي، وهي القوة العظمى الوحيدة في العالم، ولا يزال التفوّق العسكري لأمريكا لا نظير له. وتسيطر أيضاً عسكرياً على العالم عبر البر والبحر والجو والفضاء. وهي اليوم المنتج الأول في العالم للنفط والغاز الطبيعي. وتُعدّ الجامعات والمؤسسّات العلمية الأمريكية الأفضل في فئاتها. كل هذا يعطي واشنطن المبادرة على فرض العقوبات من مبدأ الغطرسة والاستبداد اللذان يعدّان نتاجاً طبيعياً لتفرّد القوة الأمريكية على مستوى العالم، الذي كان أحد أبرز أهدافها الرئيسية وما يزال إخضاع كل من يخرج عن هذا النسق الأحادي.

فلسفة العقوبات، أوضحها الرئيس الأمريكي الأسبق “ودرو ويلسون” في خطاب له في مدينة “إنديانا بوليس” عام 1919م، قائلاً: “الأمّة المعاقبة هي أمّة سائرة إلى الاستسلام، بتطبيق هذا العلاج الاقتصادي السلمي، الصامت، القاتل لن تكون هناك حاجة لاستخدام القوة، فهو علاج رهيب لا يكلّف حياة خارج الأمّة المستهدفة، ولكنّه يضع الضغط على هذه الأمّة. وفي رأيي، لا توجد دولة حديثة يمكنها أن تقاومه”.

وتهدف العقوبات الأمريكية، سواء تلك التي فرضتها واشنطن منفردة أم بالاشتراك مع الدول الغربية الاستعمارية أو التي فرضت برغبة أمريكية من خلال مجلس الأمن إلى منع أية دولة في العالم وبجميع الوسائل بما فيها القوة الغاشمة من امتلاك القوة اللازمة لحماية نفسها من العدوان. وكذلك تهدف إلى حماية الكيان الإسرائيلي وإبقائه متفوّقاً لكي يواصل احتلاله وعدوانه، كما ترمي إلى استنزاف ونهب الخيرات الاقتصادية للدول المعاقبة، وإبقاء الدول الحليفة لواشنطن تحت سيطرتها وجرّها باستمرار لتأييد المواقف الأمريكية، وأخيراً تهدف إلى السيطرة على منابع النفط ومصادر الطاقة الأخرى واستخدامه كوسيلة ابتزاز ضدّ الدول المنافسة لها.‏‏

وفق تلك الأهداف برز سلاح العقوبات الاقتصادية في السياسة الخارجية الأمريكية، خاصة بعد نجاح “دونالد ترامب” بالانتخابات الأمريكية الأخيرة، ووفق تلك الأهداف فإن الولايات المتحدة تستخدم في توجهاتها الخارجية سلاح العقوبات الاقتصادية كبديل عن التدخل العسكري المباشر أو الدخول في صدامات عسكرية مع العديد من دول العالم، خاصة أن هناك الكثير منها يمتلك قوّة عسكرية غير تقليدية متطورة. واتجهت الولايات المتحدة للإسراف في استخدام العقوبات حتّى ضد حلفائها مثل الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك.

إن المتابع للعقوبات الأمريكية على إيران وروسيا يرى أنها دائماً تستهدف قطاعات الاقتصاد المختلفة بشكل أساس، خاصة قطاع الطاقة (النفط والغاز)، والشركات الصناعية الكبيرة، وقطاع المصارف؛ إذ إن الهدف من هذه العقوبات هو تعزيز قوة الاقتصاد الأمريكي من خلال ضرب اقتصاديات دول منافسة لها في العالم. ذلك أن فرض عقوبات على قطاع الطاقة في روسيا وإيران سوف يعزّز عمل الشركات الأمريكية التي تعمل في دول تنافس هاتين الدولتين في مجال الطاقة، وتحاول أن تحلّ محل روسيا في تمويل دول أوروبية بالطاقة.

إن هدف إدارة “ترامب” من فرض العقوبات على إيران وروسيا هو كسب المزيد من أموال دول الخليج العربي وفرض الأتاوات عليهم، على اعتبار أن الولايات المتحدة تدافع عن مصالح هذه الدول في الشرق الأوسط. وهذه السياسة سلاح ذو حدّين، ففي الوقت الذي تقود إلى حصول الولايات المتحدة على أموال خليجية طائلة، وتحتكر السوق الخليجية لشركاتها الخاصة، فإن الاستمرار فيها سيقود إلى إفلاس هذه الدول وحصول تذمر شعبي قد يقود إلى احتجاجات على غرار ماسميت بـ”ثورات الربيع العربي”، وهو ما يحصل الآن في البحرين وشرقي السعودية.

وكثيراً ما استخدمت الولايات المتحدة العقوبات بذريعة حماية حقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب، ومن أمثلة هذه العقوبات تلك التي فُرضت على ليبيا، وسورية، والعراق، واليمن وكوبا، وكوريا الديمقراطية، وإيران، والسودان، وأفغانستان. وفي أعقاب هجمات 11 أيلول فرضت عقوبات على شبكة واسعة من كيانات إرهابية وليست دولاً.

تأتي العقوبات الأمريكية كإحدى الوسائل الجديدة لمواجهة الضغوط الاقتصادية الداخلية. وقد عبّر الرئيس “ترامب” في العديد من خطاباته في أثناء حملته الانتخابية، عن عدم رضاه عن الاتفاقيات التجارية الدولية التي تشارك فيها بلاده، ووصفها بأنها اتفاقيات “مجحفة” بحق الولايات المتحدة؛ حيث يرى الرئيس “ترامب” أن المنافسة التجارية تتسم بعدم العدالة، ويلجأ الكثير من الدول إلى التحايل لتحقق فائض تجاري مع بلاده، لتضر بالاقتصاد الأمريكي، وتعيق نموه وازدهاره، تزامناً مع معاناة الولايات المتحدة من عجز ضخم في ميزانها التجاري، فإن هذه التجارة غير العادلة تسلب أيضاً الملايين من فرص العمل التي كان ينبغي توفيرها للأمريكيين. وبناءً على ذلك يحاول الرئيس “ترامب” إدارة ملفاته الداخلية والخارجية من خلال استراتيجية “الصفقة”، وعلى الرغم من نجاح بعض من هذه السياسات فإنها تهدّد بتفجير نظام التجارة الدولية، الذي تمّ تدشينه عقب نهاية الحرب العالمية الثانية.

وتقدّر المفوضية الأوروبية أن العقوبات خفضت النمو في الاتحاد الأوروبي في الوقت الذي كانت هناك حاجة ماسّة إلى التوسع الاقتصادي. وجاء الاعتراض الأوّل على هذه العقوبات من ألمانيا وفرنسا أولاً، إذ عدت ألمانيا أن فرض عقوبات على روسيا وإيران سوف يضرّ بالشركات الأوروبية ومن ثم الإضرار بالاقتصاد الأوروبي، لأن هناك العديد من شركات الطاقة الأوروبية تعمل في روسيا، وبدأت بعضها في التعاقد مع إيران للاستثمار في هذا المجال، خاصّة بعد الاتفاق النووي ورفع العقوبات الدولية عنها، لأن إيران بحاجة إلى شركات وأموال أوروبية لتنمية ثروتها الطبيعية، وتحسين اقتصادها. وهو ما يعني أن أوروبا لن تسير في ركب القرارات الأمريكية الأحادية.

ولعل أبرز التداعيات للعقوبات الأمريكية على حلفائها الأوروبيين أنها قد تقود إلى صراع دولي بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية، إذ إن الأخيرة أكدت بشكل صريح أن العقوبات سوف تضرّ بالاقتصاد الأوروبي أكثر ممّا تضرّ باقتصاديات الدول المفروضة عليها. ولهذا لن يكون لها القوة الكافية للتأثير، بل ستزيد من الفجوة بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين. وفي هذا الصدد عبّر وزير المالية الفرنسي “برونو لومار”، عن استيائه من العقوبات الأمريكية فقال في 20 أيار 2018م: “هل ننوي أن نسمح للولايات المتحدة بأن تكون شرطياً اقتصادياً عالمياً؟ والجواب هنا “لا”.

وفضلاً عن ذلك، فإن سياسة العقوبات ستقود إلى الإضرار بالاقتصاد الأمريكي قبل غيره، لأن فرض عقوبات على دول بحاجة إلى التكنولوجيا الأمريكية سيضطرها إلى اللجوء إلى دول أخرى ذات صناعة متطورة. وهنا ستصبح الشركات الأمريكية خارج هذه الأسواق، خاصة أن العديد من دول العالم بدأت تتذمر من العقوبات الأمريكية، ولا تتعاون معها، بل تعارضها علنا، وهذا سيكون عاملاً معرقلاً لتطبيق العقوبات الأمريكية على خصومها، ولاسيما روسيا وإيران.

ويتضح من التجارب أن العقوبات الاقتصادية سلاح ذو حدّين، فالحكومات المحاصرة يمكن أن تبتكر أساليب لتعويض النقص من أسواق أخرى، أو زيادة الاعتماد على المنتج المحلّي، كما يمكن إيجاد خطوط ائتمانية من بعض الحلفاء لضخ الاستثمارات، وتطوير الاقتصاد، أو الحفاظ على مواقعها في الحكم، في وقت تتراجع وتيرة النمو في الولايات المتحدة، التي تفرض العقوبات مع تراجع الصادرات، وازدياد البطالة.

وفي ظل العولمة وسيطرة الشركات العابرة للقارات، تشغل المصالح و”الرأسمال” دوراً كبيراً في إزالة الحواجز، وإجبار أمريكا على إلغاء العقوبات والقيود، وتحتدم المنافسة على الدخول في أسواق البلدان، التي ترفع عنها العقوبات. وواضح أن المتضرر الأكبر من العقوبات والحصار هي الشعوب، فحسب تقديرات الخبراء فإن نجاح العقوبات في بلوغ أهدافها المعلنة لا يتجاوز خمسة بالمئة، وعلى العكس استطاعت بعض الدول تنمية مواردها الداخلية الاقتصادية، ولم تسقط أنظمتها، بل ترسخت وازدادت قوة.

روسيا اتجهت إلى تعزيز علاقاتها بدول البركس وتجمع شنغهاي، وتمكنت إيران من تحقيق قدر أكبر من الاستقلال الاقتصادي بالاتجاه لتطوير قدراتها الذاتية في المجالات الصناعية، خاصة الصناعات الحربية.

وفي كوريا الديمقراطية، لم يمنع الحظر التجاري الذي فرضته واشنطن لمعاقبة “بيونغ يانغ” بسبب برنامجها النووي والصواريخ الباليستية من إجراء الاختبارات الصاروخية.

وهو ما يعني أن العقوبات لن تكون سوى أداة توتر جديدة، لن تجني من ورائها الولايات المتحدة إلا المزيد من الإصرار على إنهاء الأحادية الأمريكية، وتكريس تعددية الأقطاب، التي لن تعرقلها سياسات العقوبات أو نشر المزيد من القوات الأمريكية، بل إن إخفاق العقوبات في تحقيق أهدافها سيشكل ضربة جديدة إلى الهيبة الأمريكية المتداعية.

إن آثار العقوبات حتى الآن جاءت مخيبة للآمال، لدرجة أن العديد من الأكاديميين قد خلصوا إلى أن هذه العقوبات غالباً ما تجعل الحكومات تظهر أمام شعوبها وكأنها تواجه المؤامرات الغربية. إذ إن الألم الذي يلحق بشعب ما جراء هذه العقوبات غالباً ما يولد لدى الشعب عقلية تقوي إرادته، وتسمح له بالثقة في حكومته.

فقد ازدادت شعبية الرئيس “بوتين” في روسيا، حينما استغل العقوبات المفروضة على بلاده لتعزيز تشكيل عقلية شعبه الوطنية، وإقناعه بأن هذه العقوبات ما هي إلا مؤامرة غربية، لتدمير مركز موسكو الدولي والعمل على تدهور معيشة الشعب الروسي، وهذا بدوره عزّز الدعم الشعبي للسياسة الخارجية الروسية التي تم استخدامها لدعم سورية في مواجهة المجاميع الإرهابية المدعومة من الغرب.

وإذا ما نفذت أمريكا تهديداتها ضدّ الصين فإن هذا الخيار يمكن أن يعني وقف التجارة الأمريكية مع الصين. والعقوبات الأمريكية الموجهة ضد الصين ستتسبب في رد فعل فوري ضد أمريكا، فماذا سيحدث إذا قررت الصين تقليص تجارتها مع الولايات المتحدة الأمريكية؟.

ولابدّ من الإشارة إلى ازدواجية المعايير الأمريكية، فقد تعرضت شعوب عربية للحصار والجوع، وفي المقابل لم تخضع “إسرائيل” لأي نوع من العقوبات الاقتصادية والتجارية رغم عدم تطبيقها العشرات من قرارات مجلس الأمن، والمئات من قرارات الأمم المتحدة، ومواصلة احتلالها للأراضي الفلسطينية وقتل المدنيين وقمعهم.

وفي نهاية المطاف، لن تقود العقوبات الأمريكية إلى نتائج مرجوّة منها، ولن تؤدّي إلى خسائر كبيرة في الدول المستهدفة، بل ستكون محدودة الأثر وستتلاشى تدريجياً، وذلك لتشابك المصالح الاقتصادية مع السياسية، وأن حاجة الولايات المتحدة لهذه الدول في المنطقة والعالم كبيرة جداً. وهناك تفاهمات بينهم على قضايا مهمّة ومصالح مشتركة في سورية والعراق وغيرها، لهذا فإن هذه العقوبات هي مجرّد أمل أخير تناور الولايات المتحدة من خلاله، في سبيل الحفاظ على عالم القطب الواحد الذي ترفضه جميع الدول التي تحترم سيادتها الوطنية.