ثقافةصحيفة البعث

دراسات مختارة في التطور النوعي والفردي للنفس

يتضمن كتاب “دراسات مختارة في التطور النوعي والفردي للنفس” تأليف أ.ن. ليونتيف وترجمة د.بدر الدين عامود والصادر عن الهيئة العامة للكتاب–المشروع الوطني للترجمة- دراسات هي الأهم في سلسلة طويلة ومتصلة من الدراسات النظرية التي كرسها المؤلف لمعالجة المشكلة المفتاحية في علم النفس: نشأة النفس وتطورها لدى البشر، ويكتسب الاضطلاع بهذه المهمة أهمية علمية وعملية على صعيد ما تقدمه من إجابات عن التساؤلات المطروحة على علماء النفس والمربين. لمعرفة طبيعة النفس ومحدداتها.

ينطلق المؤلف من نظرته إلى الفرد كطرف إيجابي فاعل في عملية تكوّنه النفسي، ويتجلى ذلك في ما يبديه الحيوان من فاعلية في البحث عما يضمن بقاءه عبر انعكاس مختلف صفات مكونات العالم المادي الخارجي، وقيامه بما من شأنه تلبية حاجاته، وتجنب ما يهدد وجوده، ومن هذا المنظور يتناول مسائل التطور الحيوي للنفس وارتقائها لدى الحيوان، وصولاً إلى ظهور الوعي عند الإنسان كشكل راق من أشكال النفس، يختلف جذرياً عن أشكالها لدى الحيوانات حتى الراقية منها، ويرجع هذا الاختلاف إلى الطبيعة التاريخية –الاجتماعية للنفس البشرية، وظهور قوانين وآليات تخضع لها عملية استحواذ الفرد على الخبرة الاجتماعية التي تراكمت عبر العصور وانتقالها من السلف إلى الخلف.

يبدأ الكتاب بتقديم من قبل المترجم إذ يرى أن الكتابة عن الإنسان المبدع مهمة ليست باليسيرة، فعلى من يود الاضطلاع بها أن يحمل قدراً كبيراً من الإحساس بالمسؤولية العلمية والأخلاقية، ودرجة عالية من الحرص على الدقة والموضوعية، ما يترجم عملياً في دأبه على الإلمام بتفاصيل حياة من يكتب عنه، والإحاطة بمراحل تكوّن شخصيته وتطورها، وخاصة ما يتعلق منها بالسمات ذات الصلة المباشرة بمادة إبداعه، وعليه من جانب آخر تحديد خصائص شخصية من يكتب إليه وصياغة الأهداف التي يرمي إليها من خلال كتابته، واختيار الأنجع والأنسب من الوسائل والأدوات لبلوغها.

وتغدو هذه المهمة أكثر صعوبة كلما اتسعت دائرة شهرة موضوعها، وامتد أثر نشاط الكاتب بعيداً في الزمان والمكان. ذلك هو حال تقديمنا لمؤلف هذه المختارات من الدراسات لألكسي نيكولايفيتش ليونتيف، الفيلسوف المفكر الكبير وأحد أعلام النفس البارزين في القرن العشرين، وهو أحد ثلاثة كان لعلمهم المشترك الفضل في ظهور ما يعرف في علم النفس بالمدرسة التاريخية- الثقافية، وبعد الوفاة المبكرة لرائد هذه المدرسة ل.س. فيغوتسكي ظل ليونتيف وفيّاً لمبادئها ومثابراً على تطويرها في العديد من الاتجاهات، وحريصاً على اختبار صحتها وجدواها في ميادين شتى النشاط البشري، وفي المراحل المختلفة التي يمر بها الإنسان في حالات السواء والمرض، وفي مجرى نشاطه النظري والعملي وضع ليونتيف الأسس المنهجية العلمية التي تضمن المقاربة الموضوعية للقضايا السيكولوجية وطرائق وأدوات بحث المشكلات المطروحة عبر نظرته الشاملة والعميقة للأبعاد التاريخية والأنتروبولوجية والفيزيولوجية والاجتماعية لوعي الإنسان بما أنه الموضوع المحوري لعلم النفس، ولعل اطلاعه الواسع والدقيق على العلوم التي تتخذ من الإنسان ماضياً وحاضراً مادة لاهتمامها، يتجلى في مراحل إبداعه العلمي كافة الذي أسهم بفضله في تطوير علم النفس بفروعه المختلفة ليس في الاتحاد السوفيتي (سابقاً) وحسب بل وفي العالم أجمع.

ولد أ.ن. ليونتيف في مدينة موسكو في الخامس من شباط عام 1903، وشهدت سنوات حياته تغيرات نوعية عميقة في المجتمع الروسي، وفي المجتمعات السوفييتية لاحقاً على صعد الحياة كافة، وقد أسهم ضمن حدود اهتماماته العلمية بفعالية في واحد من هذه الصعد الذي ارتبط ما طرأ عليه من تحولات وتطورات مهمة بأسماء احتل اسمه موقع الصدارة بينها.

تمكن ليونتيف إبان سنوات دراسته في كلية العلوم الاجتماعية في جامعة موسكو من الاطلاع على التراث الفكري العالمي ومنجزات علوم الفيزيولوجيا والأنتربوبوجيا والاجتماع والنفس، وفي تلك الفترة كان اهتمامه الخاص بمسائل علم النفس يتضح ويتزايد بتشجيع من غ.إ.تشيلبانوف الذي كان حينها مديراً لمعهد علم النفس التابع لجامعة موسكو ومشرفاً على البحوث السيكولوجية التي كان ينفذها طلاب الكلية، وقد قدم ليونتيف تحت إشرافه أول تقرير علمي بعنوان “نظرية جيمس حول الأفعال الفكرية- الحركية”، وباشر ليونتيف عمله بعد حصوله على الشهادة الجامعية في معهد علم النفس، وأستأنف في الوقت عينه دراساته العليا هناك.

في عام 1926 ضمّن ليونتيف أفكاره مقالة مشتركة مع لوريا “مختصة في علم النفس” حملت عنوان “دراسة الأعراض الموضوعية للاستجابات الانفعالية” وطوّر فيما بعد هذه الأفكار التي لم تكن قد تحررت من تأثير الانعكاسية في كتابه الموسوم “طبيعة الصراع الاجتماعي” وبعد مضي عامين على نشر مقالته “تجربة في التحليل البنيوي للمجموعات الترابطية المتسلسلة” في المجلة الطبية الروسية– الألمانية، وعكس محتوى هذه المقالة تحولاً ملحوظاً في نظرة صاحبها إلى الاستجابات الترابطية، فلم تعد هذه الاستجابات مجرد انعكاسات متتالية بقدر ما هي نتاج صيغة المعاني التي تشحن بها المجموعة الترابطية، وبعد ذلك نشر ليونتيف ولوريا مقالة مطولة بعنوان “الاختبار والنفس” وأعقبها ليونتيف بمقالة أخرى تحت عنوان “الانفعالات”.

درس ليونتيف “امتلاك المفهوم في عملية التعليم” لحل إشكالية الوعي والتعرف إلى طبيعته وأصوله وعوامل نشأته وتطوره، وتمت دراسته من قبل مجموعة انصب اهتمامهم في الدراسات نحو معالجة مشكلة الأداة كشيء أو كموضوع يحمل أسلوباً اجتماعياً معيناً لدى استعماله كاستطالة أو امتداد لقدرات الإنسان الجسمية والنفسية، يتوسط تفاعله مع العالم الخارجي على الصعيد المادي الخارجي أولاً، والنفسي الداخلي ثانياً. في حين كانت الدراسات التي تلتها في العامين 1935 و1936 تدور حول علاقة الوعي والنشاط واختبار فرضية أن “المفتاح إلى مورفولوجية الوعي يكمن في مورفولوجية النشاط” حسب ما ورد في إحدى مخطوطات ليونتيف.

جمان بركات