“في حضرة الحب نحيا”.. عالم الحب والحرب
عنوان صوفي بحت من جهة إيحائه ووقعه في النفس، هو ما اختارته الشاعرة “مريم عودة الصايغ” ليكون أول تماس للقارئ مع مجموعتها الشعرية الثانية (في حضرة الحب نحيا)، الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، ضمن خانة “إبداعات شابة”، الأمر الذي تؤكده مفردات أخرى من عالم الصوفية مثل “ترنم المولى” وغيرها من العبارات، التي حضرت في شعر المتصوفة، وربما هذا ما أرادته مريم، أن يشعر القراء أنهم أمام كتاب من لحم ودم، لكنه روحاني أيضا بطبيعته الميالة إلى السرد وشعرية الخواطر، أكثر من كونه يشكل وحدة مقطعية شعرية، مشغول على صورها ولغتها وحالتها، لتجيء القصائد وكأنها دفقات شعرية تنسكب من وجدانها على دفعات متتالية، دفقات تحملها العاطفة، عاطفة الأنثى أولا، ثم عاطفة المرأة، التي تترك أيضا لمستها على اللغة والصورة الشعرية والعلائق اللغوية وتقديم المعنى على اللفظ حينا ثم العكس، تقول مريم في افتتاحية “في حضرة الحب نحيا”، بعد أن تصدت لعنوان ثقيل الوجد من عيار(دمشقُ)، استهلكت فيه اللغة معظم معانيها وغالبية ألوانها الشعرية منذ أمد طويل، وما من شاعر سوري أو عربي، إلا وجرب عضلات قلمه في هذا العنوان تحديدا، كل على طريقته، لكن الثيمة مغرية دوما ولا بد أن تدخل “مريم” تحت قناطرها الشعرية، من أبواب مختلفة، لا تذكرها الشاعرة في القصيدة، لأنها معنية بالحالة نفسها، شغوفة بدمشق، حتى أنها جعلتها سابقة على الكلمة، تقول: (في البدء كانت دمشق/ومن أزقتها تنفس الإنسان/ لأجل دمشق/ تخلع المساءات رداءها/ وهي تتمايل بخلخال حسنها/ ليلها الساكن يرفع عن الحسن خماره/ تقتات الطيور القمح من قمح كتفيها، ترسم ملامح الأمس بعيون الغد/ أبجدية الحضارة/ وأخرى أبدية الوجود/ في الحياة وبعد القيامة)، كل ما سبق العبارة الأخيرة “في الحياة وبعد القيامة”، يشتغل على التمهيد للخاتمة، وصف أنثوي بجدارة، كلام بسيط وله وقعه المألوف في دواخل القارئ، السرد الشعري سلس مع صور شعرية، ترتفع شعريتها حينا وتنخفض حينا آخر، حتى تختم القصيدة بالعبارة الشديدة الإيحاء والمُتخيل الشعري المذكور آنفا، وهي بهذا تعمل كما لو أنها بَنّاء لديه كل أدواته، وهو يرفع البناء، ثم يضع لمسته الجمالية في النهاية، وهذا التوصيف ينطبق على بعض القصائد، ويفترق عن أخرى، فيحضر بشكل طبيعي فيه البوح، باعتباره ألف باء الشعر النسوي بشكل خاص.
يغلب على المجموعة التي تمتد على 152 صفحة من القطع المتوسط، الشأن العاطفي، وسوف يكون لواقع الحال في بلدها حضور أكيد في مجموعتها، فلا تريد “مريم” أن تبدو أنها منفصلة عن الواقع، لذا ستحضر المدن السورية التي ابتليت بمآسي الحرب وفظائعها كأيقونات، مثل “سورية، حلب، عكرمة، حلب، عين عرب-دمشق”، كما ستحضر الشهادة وقتامة الحرب ووحشتها، وآثارها الفجائعية على كل شيء في بلدها من حجر وبشر، تقول الشاعرة في قصيدة “ساعة حرب”: على عريشة العنب/ تركت ليلي معلقا/ آثار السجائر/رائحة القهوة/ صمت الزمن المرير وراء الأحجار القديمة/ تلوح لي على وقع الرصاص/آلاف العيون من النافذة المكسورة/ أمطار الدماء تسقي بلابل الشام/عصافيرها العاشقة/ تنشد السلام/ على وقع طبول الحرب)، وكما نلاحظ تبتعد الشاعرة عن الزخرفة اللفظية عموما، وغوايات اللغة في الذهاب نحو ابتكارات أكثر شخصانية بين الحدث وربطه بعالم القصيدة، وككل من يكتب الشعر، لكل منهم تعريفه أو فهمه الخاص للشعر، والذي قد يختلف من شاعر لآخر، للشاعرة أيضا تعريفها ورؤيتها الخاصة للشعر، والتي لا تختلف من حيث الشكل والوصف والتعشيق، عن حال قصيدة النثر عموما، وإن كان أسلوب التعبير لديها مفارق في بعض جوانبه لجماليات النثر، كالتوهج والإيجاز والبلاغة، إلا أنها تعتمد على الصور المتلاحقة في بنائها لبنية قصيدتها من الداخل إلى الخارج، فيشعر القارئ ببعض الخلل في وصول المعنى بشكل أكثر وضوحا لتخيله، لكنه أيضا يتلمس ذلك التيه الذي يتشظى على الورق، وهو خارج من انفعالات امرأة غاضبة وعاشقة، تقول “مريم” في قصيدة “يوم العيد في زمن الحرب”: (ماء يابس في أوردة الغيم/خارج من الظل إلى العدم/ يرسم الفراغات بالماء، فجره مصلوب على النار/ تنهشه أقدار موت تزين الأروقة/ ثياب مزقها الدم/ مساؤه ضيق/ كورق لا يُكتب عليه/ يومه يوم حنطة في حقل الرصاص).
الحب وعوالمه من الجمال إلى الصدمة، ومن الشوق واللوعة إلى نار المشاعر، فالمشاعر والعواطف هي وحدها من تقدر على جعل الحياة ممكنة، خصوصا في زمن بارد وقاس كزمن الحروب عموما، يحضر في الديوان وبوفرة، حيث تتنوع المواضيع التي تخوض الشاعرة فيها في هذا الاتجاه، لتطرح العديد من حالات المرأة العاشقة، وهي تنظر إلى الحب كمخلص، ربما يأخذ الكثير من طاقة الحياة، لكنه أيضا يضخ فيها دماء زرقاء نبيلة، محولة مسار القصيدة حيثما تحملها مفرداتها، تاركة للحالة التي تحولها من يوميات عامة إلى يوميات مكتظة بعناوين العاطفة المتعددة، أن تقود هي قطار الكلمات هذا، وهو يتعرج حينا ويهبط “موده” ويرتفع في أحيان أخرى، لكنها في قصائد الوجد واللوعة واللذة ورعشة القلم، تصبح أكثر حرية في بوحها، وتنفتح أمامها عوالم اختبرت منها ما اختبرت، وتخيلت ما لم تختبره، ليجيء اختبار جدواه في القصيدة، وكأنه جس نبض للولوج أبعد ثم أبعد في هذا العالم، الذي لن ينجو منه أحد، شاعرا كان أم غير ذلك، تقول صاحبة “ترانيم أنثى دمشقية”، في قصيدة “كَفك”: (عيون المساء تغازل كفك/ وتتبع خطوطها نجوم الليل/ تقودني إلى حيث أنتَ كؤوس الفجر/ تصدعت بحضورك، بللت وجهي في حوض العشق، أًشرع أبواب الحب لأغنيات المطر/ أقكك أزرار الصمت/ لتحمل كفك/ غابة أقمارفي طيات الفصول/ ويتلاشى الحزن بين يديك.
بين الحرب والحب، بين الحياة والموت، والوجود وعدمه، تأتي المحاولة الشعرية الثانية ل “مريم الصايغ” وكأنها اختبار حقيقي لأوجه القصيدة، وهي تدرك تماما أن تجربتها ستصبح أكثر نضجا، كلما كان تعريفها للشعر أكثر وضوحا بالنسبة لها، وعندها ستكون أجنحتها ذات ضربات شعرية أعلى في سماء القصيدة التي تحب.
تمّام علي بركات