الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

النقد.. ضرورة!

حسن حميد
لا أشك إطلاقاً أن سؤالاً كبيراً يلتهم لهوات الأدباء والمثقفين وأهل القراءة والمعرفة، فحواه أين هي فعالية النقد الأدبي الذي كان طوال أوقات البشرية، وفي مراحل حواسم من التغيير، هو المرآة الكشّافة لأهمية الأدب والثقافة والمعرفة وما تشتمل عليه من فنون تكاد تكون هي المقياس الأهم الدال على التطور، والحداثة، والابتكار.
الآن، ومنذ وقت ليس بالقريب، يختفي النقد الأدبي أو يتخفى فلا يلمح المرء له أي ظلال أو أدوار، وكأن العين الراعية للنقد الأدبي أُغمضت، أو لكأن اليد الداعمة له ضعفت أو حيّدت، وفي هذا خسارة أدبية كبرى لجهات عدة، منها الكاتب الذي يبدع النصوص، ومنها القارئ الذي يحتاج إلى الإرشاد مرة، وإلى تبيان ما في النصوص من قيمة ونفاسة مرة أخرى. فالنقد هو الخبرة، والذات العارفة ببواطن النصوص ومراميها، وهو الذاكرة المتراكمة التي ماشت النصوص من أيام ظهور الإلياذة وحتى يوم الناس هذا، وهي أيام طويلة اخترمتها أحوال اجتماعية وسياسية وفكرية واقتصادية كثيرة، وأحاطت بها متغيّرات نسفت أفكاراً ونظريات قارة وجاءت بغيرها، وصاحبتها مدارس أدبية وفنية لم تخلُ من العصف والنزق والمحو والصوابية.
أقول هذا لأنني أشعر بطعوم مُرّة بسبب غياب النقد الأدبي الذي راهنت الحياةُ الثقافية عليه طويلاً كي يكون مزدهراً ونامياً ومتواصلاً في الحضور لقناعة آمنت بها النفوس أن الجامعات التي لا قدرة لها على تصنيع مبدعين، سوف لن تكون قادرة على خلق جيل من المثقفين النقاد الذين روّت دراساتُهم لمدارس النقد الأدبي والفني المختلفة أرواحهم، لتكون قادرة على تذوق النصوص الأدبية والفنية وبيان ما فيها من أهمية ونيافة من جهة، وضبط تشظيات الفوضى الأدبية والفنية ضبطاً جمالياً من جهة ثانية، ولكن للأسف، والسنوات تمرُّ مر السحاب، لم تخلق هذه الجامعات أجيال النقد التي حلم بها الأدباء والفنانون، وبذلك صار من يحترق بنيران موهبته وتشوفاته للمضايفة مساوياً لمن يقول: يا ميجانا.. يا ميجانا!
والحق، إن البحث عن أسباب غياب فعالية النقد الأدبي، هو بحث في حقول من السراب، لأن ما من أجوبة مقنعة تسوغ هذا الغياب، ونحن ندرك أن الحياة الثقافية اتسعت وامتدت، وأن أحياز القراءة والاطلاع والمعرفة باتت اليوم متاحة أكثر، فقد صار بمكنة من يعشق النقد الأدبي أن يطلع على مدونات نقدية كثيرة كانت بادية ومهمة في مختلف جهات الأرض، ولاسيما في البلدان المتقدمة معرفياً، أعني البلدان التي كانت بعيدةً عن ويلات الاستعمار والهيمنة، لأنهما كانا الحاجب لكل جميل ونبيل، قصدت أن بمكنة طالب النقد الأدبي اليوم أن يعرف مرامي النقد منذ أيام الإغريق، وحتى يوم الناس هذا. وأن يدرك تماماً ما فعله النقد الأدبي من أفعال جليلة جعلت النصوص والتجارب والذوات المبدعة تبرق وترهج مثل الأحجار الكريمة، بل يدرك أن النصوص والتجارب التي أحاط بها النقد ورعاها هي التي حملتها أكف الأزمنة من جيل إلى جيل، فلولا قولات النقد ورمياته الصائبة لما سمعنا بـ سوفوكليس، ودانتي، وشكسبير، وسرفانتس، وألف ليلة وليلة، وكتاب الموتى، والأساطير، وحكايات الميثولوجيا. عنيت أن الآداب والفنون التي أبدى النقد الأدبي أهميتها هي التي ظهرت وتجلت أما تلك التي تجاهلها وحيّدها فقد غدت نسياً منسياً. إن الفوضى التي تعيشها الحياة الأدبية اليوم، وتضارب الآراء حول المنتج الأدبي والفني وقيمته، والأوهام التي ينساق خلفها خلق كثيرون، كلها تؤكد أن غياب النقد الأدبي الحقيقي هو أمر ضار بالحياة الأدبية والفنية، ولا بدّ من استعادة دور النقد الجمالي كي لا يتساوى في القيمة من ولد ليزحف ومن ولد ليطير!.
Hasanhamid55@yahoo.com