الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

صمت البحر..!

حسن حميد

نادراً ما التفت النقاد، وأهل الثقافة، إلى جهة لا تبدو منارة كما يجب في كثير من الأحيان، وهي أن الدول الكبيرة التي عرفت القوة، واستعمار البلدان، وإلحاق شعوبها بها، وفرض ثقافتها عليها، هي الأخرى، وفي أوقات المداحمة واندفاع الأخطار، عرفت الأدب المقاوم للظلموت؛ على الرغم من أن هذه البلدان وسمت طوال أزمنة طويلة أنها هي رأس الشر والعسف والأذى!

أسبانيا التي احتلت بلدان أمريكا اللاتينية، وفرضت عليها القوانين الأسبانية، والعادات والتقاليد والثقافة الأسبانية، واللغة أيضاً، عرفت أدباً مقاوماً كتبه الأدباء الأسبان في أوقات الشدة حين وقع الظلموت على الشعب الأسباني.

وفرنسا حين احتلت من قبل الألمان مرات، ولاسيما في المرة الأخيرة في أثناء الحرب العالمية الثانية عرفت الأدب المقاوم أيضاً للاحتلال الألماني.

ومن الأدب المقاوم الذي عرفته مدونة السرد الفرنسية في أثناء الحرب العالمية الثانية، رواية /صمت البحر/ التي وقعها مؤلفها باسم /فيركور/. وهي رواية غنية بحضورها الإنساني، وجمالها الأدبي، وصلادتها الوطنية على الرغم من أنها رواية قصيرة جداً، تكاد تكون قصة طويلة ليس إلا.

هذه الرواية /صمت البحر/ طبعت بملايين النسخ، وترجمت إلى مختلف لغات العالم، وانتشرت في جميع بقاع الدنيا ليس بوصفها أدباً فرنسياً، وإنما بوصفها رواية مقاومة واجهت الظلم في لحظة احتدام القوة الألمانية، ووصولها إلى أعلى ذراها، استكباراً واستعلاءً على الآخرين.

/صمت البحر/ رواية وقّعت باسم /فيركور/ وهو اسم إحدى المقاطعات الفرنسية، خوفاً من أن يصرح كاتبها باسمه الحقيقي، لأن التصريح بالاسم آنذاك، كان يقضي بإعدام الكاتب. أما الاسم الحقيقي للكاتب فهو /جان بروليه/ وهو رسّام كاريكاتير لم يكتب الأدب قبلاً. وقد كان من بين الأدباء والشعراء والمفكرين الفرنسيين الذين تنادوا لتأسيس جماعة أدبية غايتها إنتاج الأدب المقاوم، وتأسيس مطبعة سرية تطبع أعمالهم أسموها /منتصف الليلـ مينوي/ دلالة على علمهم القسري، وقد كان من بين هؤلاء الأدباء فرانسو مورياك، وأرغون.

/صمت البحر/ رواية تقوم على ثلاث ركائز صوتية تتمثل في الضابط الألماني /فرنر فون إبرناك/ الذي عمل موسيقياً، وجاء إلى الحرب كي لا ينتظر انتصار ألمانيا على أوروبا، الصوت الآخر هو صاحب الفندق الصغير الذي أقام فيه الضابط الألماني، والصوت الثالث هو صوت ابنة أخيه الشابة التي تعاونه على أشغال الفندق. والفضاء المكاني للرواية هو الفندق، بل غرفة صغيرة من الفندق يجلس فيها كل مساء العم وابنة أخيه، ويأتي الضابط الألماني إليهما بحجة وجود المدفأة.

الفكرة الأساسية في الرواية هي المقاومة السلبية، أي عدم التفاعل مع الضابط الألماني الذي يمثل الاحتلال الألماني، كان عادة يقرع الباب ويدخل، ويبدأ الحديث، والعم وابنة أخيه في صمت مطبق، بل لا ينظران إليه. والضابط الألماني يوزع حديثه ونظراته عليهما، ويختتم حديثه طوال مئة أمسية قضاها معهما بقوله: ليلة سعيدة، ثم يأتيهم ويخبرهم أنه ذاهب في إجازة إلى باريس كي يقابل رفاقه الألمان، وحينما يعود إليهما يخبرهما أنه لا أمل، فالألمان ماضون في حربهم وتوحشهم، ولذلك فقد قرر المغادرة، وفي الليلة الأخيرة يقرع الباب وينتظرهما ليقولا له: ادخل. فعلاً، وبعد قرع متكرر للباب، يقول العم: ادخل يا سيدي. وحين يخرج الضابط يقول لهما: وداعاً، وينظر إلى الفتاة الشابة بإمعان، فتقول له كلمة واحدة: وداعاً.

الرواية تدور حول الصمت، والصبر على المحتل، بوصفهما مقاومة، وإن كانت مقاومة سلبية. ولكن هذه الرواية ذات الإيقاع الشاعري تستحوذ على انتباه القارئ وتسره لأنها رواية كشَّافة لمفاعيل الظلم الذي وقع على الناس، بدءاً من أسر حرياتهم، وانتهاءً بإلحاق فرنسا بالتوحش الألماني، وهي كشافة لمستبطن الذات المحتلة!

بلى، وأينما يقع الظلم، تنهض روح المقاومة لمواجهته تماماً مثلما تفعل النهارات بالليالي المعتمات وإن امتدت طويلاً!

Hasanhamid55@yahoo.com