ثقافةصحيفة البعث

ظلّ هارب من الطابور

كان يقف في صف أفقي طويل يقطع الشارع ويمنع السيارات من الدخول إليه، الأحوال الجوية لا تسمح بالانتظار والوجوه المتحلَقة حوله توشك على الغفوة، استند إلى ظلّه لعله يحمله لكنه هو الآخر أي – ظلّه- يكاد يقع من فرط الحمولة.
من شمال الصف عجوز سبعيني بقامة قصيرة ووجه عبوس ملّ التجاعيد والتعب، سيجارة على يمين فمه لا تنطفئ إلا لتشتعل من جديد. أما من الجنوب فكان طفل بحوالي الأربعة عشر ربيعا، لكنّ الربيع الطلق لا يختال ضاحكا في وجهه المكفهر وأظافره الطويلة المتسخة وثيابه المبللة وحذائه المقطع وو… ما هكذا يولد الربيع في قلوب الصغار!
إن الوقوف في هذه الطوابير يعني أن ينسى المرء نفسه من الجوع والعطش والتعب، لا مكان لأي سؤال عن الساعة مثلا أو عن حال الطقس اليوم، أو أي حديث يرطب المناخ أو يلاطفه، كل الموجودين يقفون على أرواحهم وهذا ما يجعل محاولة التعارف أو التسلية أمرا يبعث على المخاطرة، البارحة مثلا تشاجر شابان وكادا أن يطعنا بعضهما لأن أحدهما سأل الآخر عن ولاعة. ولاعة كادت تشعل حريقا بشريا لولا تدخل رجال الشرطة المنتشرين في الجوار لحفظ الأمن وفض المشاكل التي قد تحدث. لقد وصل الحال إلى حد لا شيء بعده إلا الهاوية والكل يحبس أنفاسه لكي لا يسقط من الأعلى كبالون عديم الوزن والقيمة لن يهتم أحد إن انفجر أو بقي معلقا في الهواء.
هبط الصباح على الرؤوس المحتشدة، ومالت الشمس باتجاه الشرق، استيقظ المنتظرون من غفوتهم، كلّ ينام واقفا مستندا إلى ظله، تعبت الظّلال منهم ومن مشاكلهم التي لا تنتهي، في كل الأماكن الظّلال تلهو وتركض بحرية، تسابق أصحابها بفرح، إلا هنا.. ما الذي تغير؟ إنها اليوم حبيسة لا تقوى على شيء، تحمل ثقل وأوزان وهموم لم تعتدها من قبل، لقد أصبحت مجرد عكازات للانتظار فقط.
بعد ساعتين تقريبا، جاء صوت يركض من بعيد، وكأنه حَملَ البشرى وبثّ الحماس في القلوب الميتة. عدّل الجميع وقفتهم وتحركوا في مكانهم ليفكوا المفاصل الملتصقة عن بعضها وبدأت تفاصيل الوجوه بالاسترخاء والعودة إلى حالة شبه طبيعية، لقد جاء الفرج أخيرا بعد ليلة كاملة لم تكن أبدا “ليلة حب حلوة”. كان الصف الأفقي يتناقص من الأجساد تدريجيا وكل واحد يخرج من الصف يأخذ حصته ويركض مسرعا، وكأنه سجين تذوق طعم الحرية مرة أخرى أو رفّ من الحساسين الصغيرة التي ما إن يطير واحد منها حتى يلحقه الآخر.
انتهى توزيع الحصص، كل واحد أخذ نصيبه من التعب والانتظار ومضى، لم يعد هناك أثر للوجوه، العجوز السبعيني والشاب ذو الربيع الغائب والمتشاجرون بسبب سؤال بسيط، كلهم بقايا صور عالقة على الرصيف. اليوم مساء سيأتي المزيد، سيقفون في أدوارهم ويحرسون الليل حتى يغفو، ثم الصباح حتى ينبلج. إنهم الحساسين التي تنتظر الحرية والقليل القليل من الفرح.
ندى محمود القيم