الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ذلك المساء الطويل (2)

د. نضال الصالح
في الصباح، بل قبل أن يجهر الضوء بنفسه ذلك اليوم بعد ذلك المساء، كانت أمّي أنهت كلّ شيء استعداداً لمغادرة درعا. لم يعلّق أبي على عبارة أخي فيصل بكلمة واحدة، واكتفى، في نهايتها، بمغادرة الغرفة، وقبل أن يبلغ الباب طلب إلى أمّي أن تعدّ له فنجان قهوة، ثم تبدأ عملها لترتيب ما يجب من أجل الرحيل.
كنت أصغي إلى جُمان وهي تتحدّث، ولم أكن أدري أكنتُ أصغي إلى صوتها أم إلى صوت الضوء المنهمر من ملامحها، الضوء الخالب كما لو أنّ الله موْسقَ تلك الملامح إلى الحدّ الذي تعجز اللغة معه عن وصف بعض سحرها، فكيف بسحرها كله على الرغم من وطأة الحزن الذي كان يرهق كلّ ملمح منها، والذي لم يقو على إخفاء ما تحته من فتنة تربك القدّيسين بما تضوّع من غوايات؟!
ذلك المساء غادرنا أخي فيصل مكتفياً بالسلام على غير عادته، أعني أنه لم يعانقنا جميعاً كما اعتاد أن يفعل في المجيء إلى المنزل الكبير أو في العودة إلى منزله الذي لم يكن يبعد سوى أمتار قليلة عن جامع العمري، ولذلك، وطوال الليل، كانت عينا أمّي تفيضان بدمع حبيس فيهما، ولا تقوى على الجهر به. كانت تكتفي بترتيب ما خفّ حمله وغلا ثمنه بتعبير أبي في غير حقيبة وهي تقاوم طيش الدمع في عينيها، بينما أبي يتنقل من فضائية إلى أخرى متابعاً الأخبار، ولاسيما ما يعني سورية، وما إن كانت شاهدته تعود إلى فضائية الجزيرة، حتى كانت التجاعيد تزدحم في جبهته، وبين عينيه، ويردد لنفسه بصوت ناحل أسمعه: “يا أولاد الخنازير”.
جُمان تحكي، بينما أنا صريع صوتيهما معاً: صوت الضوء المنهمر من ملامحها، وصوتها المخنوق بغير غصّة كما لو أنها تروي سيرة البلد كلّه، لا سيرتها وحدها ولا سيرة أسرتها، ولا سيرة مدينتها، بل البلد الذي لم يكن لأحد أن يتوقّع يوماً أن تضرّجه بالدم ذئاب من كلّ جنس ولون، ذئاب الفضائيات التي لم تكن تدخر وسيلة لتزييف هذا الحدث هنا أو هناك، والأنظمة التي لم تعرف في تاريخها أي معنى للديمقراطية، والمستغرقة في فواتها الحضاريّ، وأولئك الذين انشقّت الأرض عنهم على نحو لم يكن لأحد أن يقدّر القاع الذي بلغوه من الهوس بتعاليم فقهاء الظلام، وأولئك الذين قذفت مجاهل الأرض بهم من غير مكان ويرطنون بغير لغة.
هي تحكي وأنا مبعثر بين غير شأن، شأن السحر الذي لم أكن رأيت من قبل، ولن أرى، وشأن الصوت الموسوس بغير شجن، وشأن ما تداعى على البلد من الذئاب والخراب والخطف والقتل والتدمير، وأجهش بوجع تضيق به بلاد، ثم أرجو جُمان أن تحتسي قهوتها التي لم تعد قهوة بسبب ما مضى عليها من جليد الوقت ساكنة صامتة تتوسل شفتيها المزهوتين بذلك اللمى الضاحك فيهما……. (يتبع).