أسئلة التّجديد.. النّقد ونقد النّقد
إن كان مصطلح “النّقد” يعني تصويب الإعوجاج في مسار فكري أو أدبي ما، فإنّ “نقد النقد” يعني تصويب الاستقامة التي ظنّ المصطلح السّابق أنّه امتلكها ومنعت خطله. وهذا ليس جديداً على التّاريخ والمجتمع البشري، بل أكاد أزعم بأنّ المسألة نشأتْ مع الفكر الإنساني منذ بدايات تشكّله كحالة جدل لا تهدأ بين القديم والجديد المتوالد من رحمه، حيث التقويض والهدم هما من صفات الفكر الثائر على ثوابته المتكلّسة وأنماطه البالية. وهما من ضرورات الصّيرورة والتحوّل الدائمين في شباب هذه الكينونة التي تدعى الحياة والوجود عموماً. فعرائش الجديد دائمة التشكّل حولنا وتنتظر قطفاً مباركاً من العقول المتفتّحة والمتفكّرة في أسباب وجودها، وتلك آليّة ديناميّة فاعلة من آليّات العقل الجدلي المنتج للمعرفة، فكلّ نظرية جديدة خصوصاً في المجال الفكري امتحنها العقل ضمن معطيات زمكانيّة معيّنة بالوقائع والبراهين النسبيّة ستصبح منهجا شموليّاً للتحليل، وستهيمن لحقبة معينة قد تطول أو تقصر على التفكير البشري وستطبع دمغتها على أساليبه التّحليليّة، ولكنّها سرعان ما تتفكّك لتتكامل مع أخرى أوسع، أو تتلاشى لسبب موضوعي يؤكّد تجاوزها. ويأتي “النقد ونقد النقد” ضمن هذا السّياق التّفكيكي للبداهات المهيمنة، فهاهو الغزالي يكتب كتابه “تهافت الفلاسفة” ليردّ عليه آخرون بكتاب “تهافتْ التّهافتْ” وهاهو الغذّامي يكتب في النقد الثقافي ليردّ عليه آخرون بنقد النقد الثقافي، وهاهو “صادق جلال العظم” في كتابه “نقد الفكر الديني” و”ذهنيّة التحريم” يحاول أن يقرأ بشكلٍ مختلف في آلية التّفكير الديني الدّائري الاستنساخي، ليجيء بعده من ينتقد نقده هذا، وخاصّة مواقفه الإشكاليّة ضّيّقة الأفق في الفترة الأخيرة المرافقة للحرب الكونيّة على سورية، التي عكستْ إفلاساً حقيقيّاً مخجلاً لدى بعض المثقفين السّوريين، خصوصاً في هذه الظروف الاستثنائيّة التي استهدفتْ فيها الهويّة الثّقافيّة والجغرافية الوطنيّة بأبشع أنواع الهدم والإلغاء. كذلك تأتي جهود المفكّر “حسين مروة” في هذا المضمار، بمحاولته التأسيس لقراءة علميّة متوازنة ناقدة للتراث الإسلامي بكتابه “النزعات الماديّة في الفلسفة العربية الإسلاميّة” في ضوء المنهج الماركسي، الذي وُوجِهَ بالكثير من السّهام النقديّة أيضاً، وربّما كان السبب في اغتياله في نهايات عمره!. وهاهو المفكّر “جورج طرابيشي” الذي تنقّل بين مشارب فكريّة عديدة، ليصبّ اهتمامه الأخير في بحر نظرية المعرفة “الإبستمولوجيا” بعد أن طبّق مجمل قراءاته المعمّقة والمتأثّرة بالفكر الماركسي والتّحليل النفسي على قراءاته للتاريخ الإسلامي وخاض المعارك الفكريّة مع كبار الشخصيات الفكريّة “حسن حنفي، حسين مروة، عبد الله العروي، أقول هاهو ينال من الجابري الذي اجتهد بدوره بقراءة التاريخ وتوصّل إلى نتائج كانت مثار جدلٍ واسع، بنقده العنيف، فيقول: (عندما قرأتُ الجابري أوّل مرّة سحرني وأدهشني، فنصّبته عوضاً عن أب مثالي وتصوّرت أنه يفتح لي مفاتيح التراث ويقودني إلى كنوز مثل مغارة علي بابا، أقولها بصراحة، وقد كتبت ذلك. قام لي مقام سارتر ومقام ماركس ومقام فرويد، وكان معلم فكر؟ لكني اكتشفت أنني أمثلتُ هذا الأب المثالي في نفسي أكثر مما ينبغي، واكتشفت أن أفكار الجابري عن التراث ناتجة عن وعي كاذب.. إني شبّهتُ نفسي بالمهندس الخبير بتفكيك حقل ألغام، الجابري يزرع اللّغم بثوانٍ، وتحتاج لتفكيكه إلى ساعات. ولكن الحقيقة لستُ أستهدف الجابري وحده، وأصرّح علناً، أن الأنتلجنسيا العربية المعاصرة، في شطر عريض منها، ولا أقول كلّها… ليست أنتلجنسيا، بل هي كما يقول ماركس عن البروليتاريا، إنّ هناك بروليتاريا رثّة. وأنا أقول إنّني جزء من هذه الأنتلجنسيا الرثة ولا أبرّئ نفسي، لأنّ الأنتلجنسيا الرثة هي وحدها التي تستطيع أن تنصّب الجابري أستاذ تفكير لها..).
كذلك تنصبّ آراء الفيلسوف والناقد المجري والمنظّر الماركسي المعروف “جورج لوكاش” في نفس المجرى، بانتقاده جمود النظرة الماركسيّة التقليديّة، التي حوّلت النظرية العلميّة الماديّة إلى يوتوبيا مثاليّة تعد الناس بجنة الخلد، لتبدو أشبه بنظريّة غيبيّة أو ديانةٍ جديدة بعيدة عن الأسس التي انطلقت منها، يقول: (أرى أنّ الخطأ الأساسي في أدب البلاد الاشتراكية في أوروبا بأنّ الكتّاب فهموا الواقعية الاشتراكية فهماً خاطئاً، ذلك أنّهم بسّطوا مفهوم “الواقعيّة” بأن تجاهلوا المشاكل اليومية في المجتمع.. كما أنّ مفهوم هؤلاء الكتاب للتاريخ متجمّد هو الآخر، فهم دائماً يكتبون عن مجتمع واحد هو المجتمع الاشتراكي على أساس أنّه جنّة الله على الأرض.) ثمّ يقول: (لكنني أرى أنّ الواقعيّة الحقيقيّة هي الواقعيّة ذات النظرة الناقدة، وأمثلة هؤلاء: توماس مان، وكونراد، وبرنارد شو).
ولعلّ اللّقاء الذي جمع “الفراهيدي” واضع البحور الشعريّة العربيّة مع “ابن المقفّع” مترجم الكتاب الشهير “كليلة ودمنة” بمساهمة من “عبّاد بن عبّاد المهلبي” يعطينا مثالاً لطيفاً في أخلاقيّة التّعامل بين المثقّفين رغم نقدهما المبطّن لبعضهما البعض. النّقد الذي يعترف بالآخر دون إلغاء، إذْ تحادثا لثلاثة أيّام ثمّ افترقا، فقيل للخليل: كيف رأيت ابن المقفّع؟ فقال: ما رأيت مثله قطّ، فعلمه أكثر من عقله. وقيل لابن المقفّع: كيف رأيت الخليل؟ فقال: ما رأيت قطّ مثله، عقله أكثر من علمه.
وختاماً،على هامش المقالة، وللتّفكه وحسب، أسوق السرديّة التّاريخيّة التّالية: حدث ذات يوم في “قونية” 1210م، وبينما كان “ابن عربي” يُقيم في ضيافة ملكها “كيكاوس” الذي أهداه داراً فخمة أقام فيها بعد مجيئه من الأندلس ليؤلّف كتابيه “مشاهد الأمراء” و”رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار” ويقال أنّه وهب الدّار لأوّل سائل طلب منه أعطيةً. أقول حدث أنّ مصوراً رسم “حجلة” بدقّة بالغة حتى أنّ بازياً انقضّ على الصورة متخيّلاً أنها حجلة حقيقيّة حيّة. لكن “ابن عربي” اكتشفَ فيها عيباً في النّسب والأبعاد، بثاقب بصيرتهً وصارح به الفنان، فاعترف أنه تقصد ذلك ليختبر مواهب ابن عربي.
أوس أحمد أسعد