ثقافةصحيفة البعث

“فارس الندى”.. ولادة وطن كما يشتهي عاشقه



بعد مجموعته القصصية (العنود) صدرت للإعلامي القاص والروائي السوري إحسان عبيد رواية “فارس الندى” عن دار بلال اللبنانية للطباعة والنشر حيث جاءت بـ 380 صفحة، وتحاكي أحداث المرحلة الراهنة بأسلوبية فنية حديثة، زاوج فيها بين الواقعية المباشرة والفنتازيا الخيالية، على خطى السحرية الغرائبية التي انتهجها أدباء أمريكا اللاتينية، فساق السرد كما يشتهي، متنقلا بين عتبات الفصول، تاركا القارئ يلهث خلفه، مسروقا باللهفة، ومنتشيا بالمتعة المتولدة من جمالية الروي وحكائية الحدث.

وباعتبار أن الرواية التي لا يسكنها الحب رواية جافة، ما تلبث أن تؤول إلى الموات، فكان الحبّ في هذه الرواية يبدأ من الزوايا الضيقة وينتشر على مساحة الوطن، أولها حبّ عاصف جمع بين سالم وفريدة، ونهايته ولادة الوطن سورية كما يشتهيها عشاقها.

ويسند الكاتب مهمة السرد إلى راوٍ خارجي كلي المعرفة، يقود عربة السرد بثقة وإتقان، يجيد فيها ترويض ظباء اللغة، فنراه يسوس الحروف والمعاني بحرفية فنية ماتعة، تشيّع في النص مباهج جمالية، يسرّبها عبر الصور الأخاذة والوصف البديع حين يقتضي الحدث أن يحاكي الخلجات الوجدانية للمشاعر الإنسانية الجياشة بالعاطفة والمكنوزة بالفرح المشتهى، ثم ما يلبث أن يحنّ إلى أسلوبه الصحفي المختزن في قلمه الخبير، فيفلت الأفراس من عربتها ويطلقها تعدو في مفازات القص الرشيق، منتقلا إلى اللغة التقريرية التي يجيد قيادتها عندما يتحول الحدث إلى حديث السياسة وحوارات الواقع المكتظ بالأهوال والفجائع، ولا ينسى أن يوظف الحوارات الخارجية والداخلية في حيثيات الأحداث، لتكتمل المشهدية البانورامية للعمل، وليحقق التكافؤ في الحضور بين الشخصيات بمختلف مستوياتها.

 الكاتب يرى أن الأزمة السورية وصلت إلى ما يشبه كتلة الخيوط المتشابكة العسيرة التفكيك، رغم المحاولات السورية والدولية لوضع حد لها، لكن جميع تلك الجهود باءت بالفشل، حيث انقسم الناس في الداخل والخارج بين حب يعمر وحقد يدمر، وأفسد الاختلاف في الرأي الود والقضية معا. وكلما لاحت طريقة للحلحلة جاء من يعيد دعك تلك الكتلة ويشربكها لتصبح أكثر صعوبة، أمام هذا الواقع كان لابد للخيال أن يسرح، ويحلق باحثا عن مخرج من هذا المأزق للدولة والشعب، لعله يساهم في راحة نفسية للقارئ كتلك الراحة التي يشعر بها من يحمل تميمة تحميه من المخاطر.

وعلى غرار البناء الفني الفنتازي للرواية الحديثة في الأمريكيتين جاء بناء رواية عبيد حدثا وأسلوبا، حافلا بصراع الأفكار، سالكا معابر المواجهة التي تدس بذور القلق في عقل القارئ وقلبه،مبتعدا عن أسلوب الهدهدة التي لا يعقبها إلا النوم العميق. تعتبر الرواية عملا صادعا هدفه ألا يبقى القارئ متصالحا مع نفسه،مقتنعا بالموجود ومستسلما له،لأن قيمة العمل الأدبي لاتأتي من غزارة المعلومات،بل بقدر ما تثير في الذهن من تساؤل كبرغوث يطن في الأذن بشكل دائم.. إنها ملحمة من الحب، فاضحة للدسائس والطمع وشراء النفوس والاستغلال والاستئثار وحافلة بالتعرية..

وبغض النظر عن أفكار الرواية التي يتبناها المؤلف، سواء اتفقنا معها أو لم نتفق، فإن فنيتها وجمالية السرد نهضت بها لتتبوأ مكانتها المرتجاة في هذا الجنس الأدبي المتطلب، سيما وأن الكاتب حاول أن يكسر انحياز موقفه، حين أفسح المجال للطرف الآخر أن يقول ما لديه، وحاوره حسبما تقتضي مصلحة الوطن، محتكما إلى هدفه السامي وغايته النبيلة من حيث النتيجة التي يتوخاها ككاتب همّه تعافي وطنه وعودته سالما منعما.

ولعل حالة الصدق والقناعة المنزهة عن المصلحة والمكاسب الشخصية للمؤلف، تشفع له أن يصرح بموقفه بملء فمه، ويترجمه لنا في هذا العمل الجميل المحمول على جناح المتعة والفائدة، وكأنه يردد قول ميلان كونديرا: (الرواية حكمة اللايقين).

رفعت الديك