ما معنى بلابل!؟
د. نهلة عيسى
لدي سؤال: هل نحن موتى أم أننا أحياء؟! أرجو ألا يدهشكم السؤال, لأنه يؤرقني في كل الأيام وأنا أراقب ازدحامنا في الشوارع, تلاصقنا في الباصات, مراوحة أقدامنا أمام معارض الملابس, عبث أيدينا في بقايا الليرات تسائلها: تراك كافية لبضعة سندويشات؟ ضحكاتنا, نكاتنا, والتدافع بالكتف على ركوب الميكروباصات للعودة إلى البيوت, كالحاملين جثامينهم فوق أكتافهم يستوقفون العابرين يسألونهم عن طريق المدافن, فلا يردون السؤال, فيتابعون سيرهم خائبين نحو المنازل, يتمتمون في سرهم: كيف رجعنا المنازل حين قصدنا المقابر, تراها المنازل باتت قبوراً, أم أن الطريق في انكسارات الظلال.. اشتبه؟!
يؤرقني كل صباح هذا السؤال, لتبدأ الأحزان في داخلي على إيقاع المذياع عرض الصور, يمر بي كناسو الطرق واجمين كسرب أوز أسود, تأكلهم دوائر الغبار, فأذوب في مقعد السيارة وأتأمل العيون تحكي قصص البيوت المقابر, والرؤوس التي لا يسندها ربما إلا حواف القمصان, وغالباً عصيان المقشات, فيفيض بي الكرب, ويمزق عن تجلدي الجلد, فأسند في الطريق الأشبه بمجلس الأموات حطامي المنهار على ظهر مقعد السيارة, وأدعي أنني لا أرى!!
أحدق في إشارات شرطي مرور يبدو حديث العهد بالوظيفة, يرفع يداً فتفزع يمامة, ويطلق صفارة فتتداخل السيارات بل الحكايات ببعضها بعضاً, كثوب مرقع بالخرق الملونة, ملتبس إلى حد السخرية, ومثقل بالروايات الحزينة الختام, ومملوء بقصص العائدين من الحرب بلا وسام!! وليتكم تعرفون كم أنا مهووسة بهذه القصص, إلى حد أنها باتت تشاركني غرفتي, شرفتي, مشجبي, سريري, طعامي, خيالي, تشاركني يومي كزميل سكن, تتلاشى ملامحه في سحب الدخان والكلام, ويربد وجهه إذا رأى في يدي كتاباً عن الحرب, أو عن السلام, فيندفع إلى حضني كحمامة مرتاعة, لاهثة.. تلتقط الأنفاس, ثم يخبرني: لماذا تعاشرين كتب الحرب, ألم تشبعي رعباً, ألم يتحجر قلبك من أناشيد الموت تتلى كالصلوات الخمس في كل بيت في المدينة, متى يا حزينة, متى ستعرفين راحة السكينة!؟
فأرد على زميل السكن: أبحث عن الحكايات, فقط الحكايات, لاشيء سواها, ماذا حدث, وكيف حدث, أين عاش هؤلاء, في مكان بائس, أو ربما جميل, أين لعبوا, هل ذهبوا مثلنا إلى المدرسة على مضض, هل تبللت مسامهم غبطة حين حملوا سيفاً من ورق, فهتفت الأمهات في النوافذ انبهاراً, فغالبوا رجفة الخوف في العروق, من خصم مفترض, انكسروا, انتصروا, لا يهم, ألعاب الأطفال سيقان صناعية, تخلع كل يوم عند النوم, ولكنهم في الكبر عندما عادوا من الحرب, عادوا بلا أوسمة ولكن بساق صناعية, وأيضاً هتفت الأمهات لمجرد أنهم عادوا!؟
أتابع الكلام: أهرب من الحرب إلى الروايات, أبحث فيها عن البشر العاديين, يحبون, يكرهون, يعاشرون الخيبة باسترخاء المصطاف في جزيرة جميلة, بلا “ثورة” في مذياع أو جريدة, تبحث تحت مزاعم افتداء الوطن المقهور والعقيدة, عن الكرسي, والسلطان, جنودها يحرسون من يمنحهم الراتب الشهري بالدولار, يصفون المدافع على الحدود ضد حماة الحدود, وفوهاتها تدير الظهر للعدو, فنصبح نحن العدو, فنستدير نحن للوراء, فتطلق النيران على الوراء, أليس غريباً أن الرصاصة التي ندفع فيها ثمن الخبز والدواء, سرقت, وباتت لا تقتل الأعداء, بل تقتلني أنا, وتوهم القتلة أنهم ملوك فعلوا ما لم يفعل, متخذين من ملامح السبات في وجوهنا الحزينة عروشاً حصينة, رغم أن لا عرش في مدننا إلا للعبث, فاضت النار, وفاض الكذب, وفاضت الشوارع بالبشر السائرين كالجثث, لا يستقيم الوهم بالعظمة مع المسدس المدلى من حزام الخصر, أو حزام الفم يحاسب على النَفَس!!
أكمل الثرثرة لزميل السكن: قصص من عادوا من الحرب, تحوم في غرفتي, تعبر اشيائي إلى الصور المعلقة, تبحث ربما عن وجوههم, عن ما كان في أحلامهم, صبايا, وأشجار, ورسائل عشق مخبأة في أكمام القمصان, تنتقل من يد إلى يد في السلامات التي تبدو عابرة , فيسكت التلفاز عن موجز الأنباء, آه ما أجمل الصمت حين يصبح الصوت عدواً للحياة, وما أجمل الخيبة عندما تكون الخيبة مجرد مقطوعة بائسة يتلوها معلم في الصف: ستبقى السنابل, ستبقى البلابل تغرد في أرضنا الخضراء, فيسأل الصغار: ما معنى بلابل؟!