الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ذلك المساء الطويل (4)

د. نضال الصالح

من حيث لا مكان كان صوت فيروز يترف صوت جُمان بإيقاع أبهى من سيمفونية لم تبدعها، وربّما لن تبدعها، روح أكثر الموسيقيين رهافة، ورقّة، وعذوبة باذخة. إيقاع تنمنمه أصوات ثلاثة: صوت الضوء المنهمر من جُمان، بل من فردوس ملامحها الفتنة، وصوت جُمان وهي تستعيد بعض سيرة أسرتها في درب الجلجلة شأن غير قليل من الأسر التي طحنتها الحرب بغير رحى حادّة الأنياب، وصوت فيروز وهي ترنّم: “على باب منوقف تنودّع الأحباب، نغمرهن وتولع أيدينا بالعذاب، وبواب بواب شي غرب شي صحاب، شي مسكّر وناطر تيرجعوا الغيّاب”.

فجأة، وبينما أنا مسحور بإيقاع الأصوات الثلاثة، توقّفت جُمان عن الكلام، استعادت عبارتها: “كفى تدخيناً يا أستاذ، كفى، أنت تقتل نفسك”، وأخذت علبة السكائر، وهرستها بقبضة يمينها بأقصى ما تستطيع من قوة، وقالت: “من أجلي”.

من أجلك مستعدّ لكلّ شيء يا جُمان، فأنت صورة وطني الجريح بغير طعنة من غير جهة، ممّن حملوا ويحملون هويته زيفاً، ومن أمريكا، وفرنسة، وبريطانية، و.. ومن أعراب أشدّ كفراً ونفاقاً من أقبح كافر ومنافق، كما أنا صورته التي أتى عليها غير مخلب، الإرهاب الذي صيّر بيتي حجارة طاعنة في الموت، وأصدقاء الأمس الذين تكشفّت الحرب عن ذئاب نائمة فيهم. مستعد لكلّ شيء يا جُمان، لكلّ ما تطلبين، بل ما تأمرين، إذا كنت تقصدين الطلب من أجلك أنت، إذا كنت تعنين الكلمتين.

كنت أحدّث نفسي بما سبق وأطلق لعيني فتنتهما بجُمان، وأرهف أذنيّ، بل روحي، للإيقاع الذي تبدعه الأصوات الثلاثة، ولاسيما رقّة الكلمتين ونداؤهما الذي بدا لي أشبه بنداء ملاك من سماء لا تُرى، وسألت: “هل تعنين ما قلت يا جُمان؟”، فاكتفتْ جُمان بالصمت، وتابعت تحكي:

أنا الآن هنا كما ترى في كندا، أعمل في هذا المطعم اللبناني الذي جمعنا مصادفة، وأبي أعطاك عمره بعد أن التهمت بيروت ما كان يدخّر من مال، وأمّي مع أخي فيصل في بروكسل، وأخي الثاني، سمير، لا أحد يعرف شيئاً عنه بعد ذلك المساء الذي غادرنا فيه درعا متوجهين إلى بيروت، إذ أصرّ على أن ندعه في دمشق ونتابع طريقنا إلى بيروت. أترى يا أستاذ كم نحن أسرة مقطّعة الأوصال؟

أسرة! بل قولي أسراً يا جُمان، مئات الأسر، آلاف، عشرات الآلاف، وكان صوت فيروز يتابع صداحه في المكان، بل في القلب والروح: “في باب غرقان بريحة الياسمين، في باب مشتاق في باب حزين، في باب مهجور أهلو منسيين”، وكنت أستعيد صورة بيتي الذي غادرته بعد أن تلقيّت غير تهديد لتصفيتي لأنني جهرت بعدائي لما سمّوه “الربيع العربيّ”، ولما زعموا أنّه “ثورة”، ثمّ جاءني خبر تفخيخه وتفجيره بعد أن دخل المسلّحون إلى الحيّ، صورة بابه وأنا أحكم إقفاله، وأؤمل العودة إليه ما إن تضع الحرب أوزارها، فأمضي ما تبقّى لي من الحياة بعد أن أتت شظايا من قذائف جهنم على حياة زوجتي وطفلتي وهما… (يتبع).