النورانية..!
حسن حميد
سألت صديقي الذي نيّفت حياته على الثمانين سنة، لماذا وعلى الرغم من كثرة الثقافة، وتعدد الفنون، ووسائل الاتصال، وترادف النماذج الإرشادية الدالة على الصواب في أيامنا الراهنة، ما زلنا أهل جفوة، وهجر، وأنانية، وإدارة ظهر للقيم والسلوكيات النبيلة. قال: المسألة ليست مسألة كتب وطباعة ونشر وتوزيع، ولا هي مسألة قراءة وثقافة وتعالق مع الفنون، ولا هي مسألة الأخذ بما توفره وسائل الاتصال، وما أكثرها، ولا مسألة كراهية للقيم التي أسميتها بالنبيلة! المسألة كامنة في ابتعادنا عن الطبيعة، لأن الطبيعة كتاب فيه كل ما تحلم به النفس من حضور، وديمومة، وعطاء، ورفد، واجتماع، ورواء، وصداقة، وتجليات، واستبطان، والمسألة كامنة أيضاً في النفوس التي حادت عن الدروب الذاهبة إلى قرى النبل لتصير من أهلها.
قلت: لم أعِ ما قلت، قال: خذ الغابة التي هي المثال الأوفى للاجتماع، وانظر في تجاور الأشواك القاسية للنباتات الطرية، والأشجار العالية للأعشاب الراضية بطولها، واسمع الينابيع والسواقي وما يصدر عنها من موسيقا وتطريب، بل انظر إلى عيدان القصب التي يسميها الناس (القصب مصّ) التي تعيش حياتها، وترعى أطوالها، وتعدها عقدة عقدة من أجل أن تُقطف وتُمتصّ وتُرمى في المآل الأخير. خذ غدران الغابات التي يشرب منها الطير والجاموس في آن، خذ الأشجار التي تتسلقها الأفاعي والقرود، وفي ذراها تبني الطيور أعشاشها، خذ خلايا النحل وما فيها من هندسة وعسل، ومداحمات الوحوش لكي تشرق العسل وتخرّب الهندسة.. الطبيعة هي كتاب الحياة، هي مرآتها الدالة على التآخي!
قلت: وهل بعدنا عن الطبيعة ومعرفة ما فيها من خبرات متراكمة، هو السبب في اندياح الأنانية والتعدي على حقوق الآخرين وتشويه صورهم، والتأليف عليهم؟! قال: لا، ليس هو البعد عن الطبيعة وحده السبب، لأن تمظهرات الأنانية، والخوف من الآخر، والتعدي عليه كثيرة، ولعل في طالعها أن النفوس ارتضت بالدروب الأكثر سهولة للوصول إلى الأماني والغايات الأكثر جهراً بالتوحش والجلافة وسوء التصرف ومن دون الأخذ بما قالته المدونات عن الإنسان العاقل النبيل المتسامح المؤثث لكل ما تتوارثه الأجيال من جميل حيّ.
قلت: وهل هذا يعني أن نهجر الدروب السهلة؟! قال: لا، على العاقل أن يرى نهايتها وإلى أين تقود. قلت: وإلى أين تقود؟! قال: إلى أرض الندم، لأن مفاعيل الظلموت الواقع على الآخرين والقيم معاً يظلُّ يحفر في قلب المسيء وعقله لكي يجهر بندمه، ولو أمام مرآة صغيرة، لأن الإنسان قائم على الفطرة، أي على القبول والإدبار، يُقبل على ما يراه في صالحه (وإن كان غير ذلك في الخواتيم) ويدبر بعيداً عن ما لا يراه في صالحه (وإن كان في جوهره ليس كذلك)، وشق الدروب الوعرة، على ما فيها من مكابدات، هو الذي يبقى مشدوداً إلى فطرة الإنسان التي تنشد الشميم في الزهور لا في الطين. قلت: وهل من وقت أو ساعة للندم والنكوص عن ما اقترفته الذات الظالمة بحق الآخرين والقيم، قال: وقت الندم وساعته أزليان، وهما في متناول الذات حين تعي وتبصر جماليات المعنى الإنساني. الندم شكل من أشكال المراجعة، والمراجعة شكل من أشكال الاعتذار عن نهج أو قول أو سلوك؛ ولابدّ للإنسان من أن يعيش لذاذة الرضا حين يؤمن بثقافتين، الأولى: هي ثقافة المراجعة كي يصير الصواب صنواً للسلوك والقول، والثانية: هي ثقافة الاعتذار عن الأغلاط التي ارتكبت في ساعة ليست من ساعات السعادة!
قلت: أنا مع المراجعة من أجل التصويب، لكن الاعتذار لماذا؟ ألا يدلل على الضعف والميل إلى الاستكانة؟! قال: لا، الاعتذار قوة، ولا تحوزه إلا الذوات الكبيرة التي روّت عروقها بمعاني الروح الإنساني الذي يميز الإنسان من الكائنات الأخرى نشداناً للنورانية.
Hasanhamid55@yahoo.com