فلا نزل القطر (3)
د. نضال الصالح
وحيداً كان يوسف يستعيد قول الحمداني: “بمَن يثقُ الإنسانُ فيما ينوبُه / ومن أين للحرّ الكريم صِحابُ؟”، ولم يكن يعني نفسه وحدها، بل حلب التي لم تعرف هناءة في تاريخها، وإنْ عرفت، فلم تكن غير هناءة عابرة، لأنّها لم تجد من يخلص لها كما يليق بها، إلا في بعض تاريخ من تاريخها، وما إنْ فرغ فنجان قهوته، ورمق فنجان ناهد الذي تركته من دون أن تلمسه، ومضى بيمينه إليه ليتسوّل قهوته، ويخمد ما اضطرم في روحه من لظى المفاجأة، حتى نادى عامل المقهى، وطلب إليه أن يفرغه في أقرب مجرى للصرف، ثمّ مضى خارجاً، وهائماً على وجهه في غير شارع، وساحة، ومنحنى، حتى بلغ القلعة.
لم أكد أقف أمام الدرج المؤدي إلى داخل القلعة، حتى وجدت نفسي أمام قاعة العرش، ثمّ بين يدي سيف الدولة، وأنشد ما كان أبو فراس أنشد: “وقد صار هذا الناسُ إلا أقلّهم/ ذئاباً على أجسادهنّ ثيابُ”. ذئاب، أجل ذئاب، ومفردهم الذئب الذي من أمثال العرب عنه: “مَن استرعى الذئب ظلم”، و”أروغ من ذئب”، و”أغدرُ من ذئب”، أفليست هذه القطعان من المسلحين، التي غزت حلب أشبه بالذئاب؟ أفليس مَن صفّق لهذه الذئاب ذئباً؟ أفليس حملة الأقلام الذين يباركون هياج هذه الذئاب وجنونها ونهمها للدم ذئاباً مثلهم؟ ثمّ أليس مَن يؤثر النجاة بنفسه بينما حلب على فوهة الموت أشبه بذئب، بل هو ذئب بحقّ لأنّه يبصق في الإناء الذي شرب منه؟ أفليس كلّ مَن يغدر، ويطعن، ويخون، ذئباً، بل أشدّ وحشية من الذئب؟ أفليست ناهد ذئبة، وإلا فما معنى أن ترمي خمس سنوات من العشق والصبابة وراء ظهرها، ثم تمضي إلى حيث كلّ شيء بثمن؟ ألا سقيا للثرى الذي يضم رفات أبي العلاء المعري القائل: “لو حاورتكَ الضأنُ قال حصيفها/ الذئبُ يظلمُ وابنُ آدم أظلمُ”.
لم يعرف يوسف تلك الليلة طعماً للنوم، ولم يكن ثمة ما يبدّد فجيعته بناهد غير استعادة ما كان يحفظ لشاعره الحمداني، أبي فراس، وكانت لازمة ناهد عنه تنهش هدأة الليل، وتنشب مخالبها المثلّمة في لحم روحه، أي قولها “لا أحبّه”، لقوله: “إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القطرُ”، وكان يحدّث نفسه: “ذاك شاعر، وأمير، وفارس، أمّا أنت فمَن أنت يا ناهد؟ مجرّد أكذوبة عشت في فيئها الزائف خمس سنوات، شأن تلك الأكاذيب التي اكتشفت بعد عقود، وبعد أن تكشف جسد الواقع عن صديد باهظ العفن، أعني مَن قاسمته الخبز والملح، والمسرّات الصغيرة والهزائم والانكسارات، ثمّ لم يرتعش له جفن وهو يمدّ غير فصيل إرهابي بالمعلومات عن أوقات مراجعاتي لمشرفي في الجامعة لتصفيتي لأنني اخترت الانحياز إلى الوطن. أنت يا ناهد قاتلة أيضاً، فالكذب قتل، والخديعة قتل، والنميمة قتل، والغيبة قتل، والخيانة قتل، وكلّ ما يؤذي، بل ما يخدش الروح، قتل، بل لعلّه أشدّ وحشية من القتل”.
للحمدانيّ قوله: “وما إنْ شبْتُ مِن كِبَر ولكنْ/ رأيتُ من الأحبّة ما أشابا”…. (يتبع).