الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

بوصلة.. وضياع!!

 

سلوى عباس

“أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة،بكم يأتون إلى العالم, ولكن ليس منكم ومع أنهم يعيشون معكم, فهم ليسوا ملكاً لكم”.

هذه المقولة أطلقها الأديب والفيلسوف جبران خليل جبران  منذ أكثر من مئة عام تعبيراً عن التفاوت في التفكير والسلوك بين الأجيال، فهم خلقوا لزمان غير زماننا،  يسعون لأن يكون لهم كيان مستقل عن جيلنا بأفكارهم وثقافتهم ورؤيتهم للحياة ككل، ولنا في شباب سورية خير مثال على ذلك، هؤلاء الشباب الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة واقع لا يعرفون كيف يتعاملون معه، ولا كيف يرتبون أوراق تاريخه الجديد.. فجأة تعثرت خطاهم، وبعثرتهم الحالة لتتركهم هائمين في طرقات ضيّعتها مجاهيل الضباب.

لكن هؤلاء الشباب الذين صدمتهم الأحداث، لم يستسلموا للحالة، بل أظهرت هذه المحنة الوجه الحقيقي لهم، فمنذ بداية الحرب وحتى الآن أثبت هؤلاء الشباب مصداقية دورهم وتفكيرهم، وأكدوا أن المستقبل لهم من خلال تخطيطهم لحياة تكون بوصلتهم في المستقبل بما يتناسب مع أفكارهم وتطلعاتهم، وكانوا على اختلاف ثقافاتهم وتوجهاتهم جاهدين للعمل على كشف الحقيقة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، ليكون صوتهم مميزاً لدى الرأي العام العالمي، مؤكدين مصداقية ما ينشرونه، وكشفهم لزيف ما تتداوله وسائل الإعلام المعادية، فجسدوا بما قدموه مثالاً على أنهم يمتلكون ناصية المستقبل، ومؤكدين أن هذا الوطن الجميل لن يكون إلا لهم، هم أبناؤه وبناته، وبشارة غده، ولعل ما يبرز واضحاً محاولتهم اختراق السائد في الحياة وخلق مفاهيم جديدة متمردين على الواقع برسم آفاق جديدة تعبّر عنهم.

في كل مرحلة، أو كل عدة أجيال ينبثق الحلم بتجاوز الماضي، وبإعطاء ما لم يعط من قبل، هذا الأمر في شتى جوانب الحياة، وهو جزء من الطبيعة البشرية، وهنا أتوقف عند حديث جرى بيني وبين أحد الشباب أخذته أحلامه باتجاه الشعر الذي أصبح فضاء لكثيرين، لكنه يعتبر أن كل ما كتب قبلهم لايحاكيهم ولا يعبّر عنهم فيسعون إلى قتل الأب، ورفض الوصاية.

هناك صراع بين جيل يبحث عن الاعتراف بوجوده والتحرر من وصاية الرواد وتاريخ الإبداع يشهد من حين إلى حين قطيعة ما، لكن القطيعة التي تستوعب الماضي وتتجاوزه، وأنا بحكم طبيعة عملي أتابع ما تكتبه الأصوات الجديدة، وقد قرأت خلال السنوات الخمس الماضية العديد من الروايات والقصص والمجموعات الشعرية لكتاب وكاتبات لا أعرف أكثرهم بشكل شخصي، وهناك كثير من الأصوات التي أسعدني أني قرأت لها، وهناك من الأصوات الشابة التي تعلمت منها أيضاً، فأنا أكبر بأي نص جديد أقرؤه إن كان لكاتب عمره ثمانون عاماً، أو لكاتبة عمرها عشرون عاماً، وبعيدا عن كل هذا هناك تجارب مبدعة وحقيقية من هذا الجيل.

الفن الجميل يفعل فعله بالروح، وعلى هؤلاء الشباب الذين اتجهوا للإبداع بمجالاته المتعددة من فن وأدب وشعر أن يسلموا أرواحهم بحرية للمجال الذي اختاروه فإذا لم يخرج المبدع إلى هذا الأفق الرحب لا يمكن أن يكون هناك إبداع، فالاستمرار في إثبات الذات الإبداعية أصعب بكثير من الالتماعة الأولى التي يمكن أن تحمل موهبة طازجة، وذائقة مرنة غير مأخوذة بأسلوب معين، فيها براءة وعفوية، لكن لابد من العمل والتعب والتواضع أيضا، لأن الغرور مقتل للأصوات الجديدة.. فهل للشباب أن يقفوا مع أنفسهم ويضبطوا إيقاع أفكارهم بما يتناسب مع معطيات العصر لا أن يتعالوا عليها ويجدوا أنفسهم يدورون في حلقة مفرغة، وليكونوا بالفعل أبناء الحياة التي يستحقونها.