الحداثة وتطور الشعر العربي من منظور التجريب
يعزو بعض المنظرين بالحداثة الشعرية، تطور الشعر العربي شكلا ومضمونا إلى أمرين اثنين.الأول:انتهاء دور الحضارة العربية التي أصبحت في ذاكرة التاريخ. والثاني:تأثير دور الحضارة الغربية في كل مناحي الحياة المعاصرة، مستشهدين برأي الناقد الانكليزي ت. س إليوت:”إن الشعر يجب ألا يبتعد ابتعادا كبيرا عن اللغة العادية اليومية التي نستعملها ونسمعها، إذ أن لغة الحديث اليومي لاتقف جامدة بل هي في تغير، وكلما تغيرت قامت حركة جديدة في الشعر تدعو إلى اقتراب الشعر من هذه اللغة..”
ومن هذا المنطلق فإن ماتطرحه القصيدة العربية الجديدة، متصل بالوضع الإنساني العام. ومن ثم فإنها تلتقي في مواقفها العامة مع ما تثيره القصيدة الغربية الحديثة، دون أن يستنسخ الشاعر العربي الحداثة الشعرية بنموذجها الغربي، بل هو يبحث عن حلول لمشكلاته الإنسانية في إطار الرؤية الحضارية السائدة.
وفي ندوة “الشعر وآفاق التجريب” التي أقامتها كلية الآداب بجامعة البعث توقفت أبحاث الجلسة الأولى عند هذا التطور الذي طرأ على الشعرية العربية الحديثة من خلال نماذج عدة تم التطرق إليها.
العنونة والتّجريب
ففي البحث الأول الذي قدمته د. رقية رستم بور من إيران، وتناول “العنونة والتجريب في خطاب محمود درويش” ديوان لا تعتذر عما فعلت نموذجا”، تطرق إلى التجريب كسمة من سمات الخطاب الحداثي ووجهها الآخر.
والشاعر درويش مثّل في ديوانه هذا الحداثة الشّعريّة، إذ اخرج أسطورة الأرض والجماعة والوطن والالتزام إلى أفق مثيولوجي انصهرت فيه هذه المقولات، فقد انتقل في هذا الديوان من شعر القبيلة إلى قبيلة الشعر.
المصطلح والمفهوم
وقدم د. عبد النبي اصطيف بحثا بعنوان “التجريب في الأدب المصطلح والمفهوم” تناول المفهوم من خلال ثلاث تجارب هي تجربة المصريين محمد مصطفى بدوي، ولويس عوض في ديوان “بلوتولاند” الذي يؤكد في مقدمته على حق الإنسان بالتجريب،والسوري كمال أبو ديب الذي حطم كل الأعراف الطّباعية عندما طبع ديوانه بلونين، كتابة سوداء على ورق أبيض، وكتابة بيضاء على ورق أسود، وجمع بين الكتابة والرّسم، وبين خط كتابة اليد والطّباعة. لكنّه يقدّم قبل ذلك تعريفا لمصطلح التجريب على أنّه محاولة اكتشاف أفاق ممكنة موجودة بالقوة بوجود النظام الأدبي السّائد في ثقافة قومية محددة.ويبين أهم حوافز التّجريب مثل: تقليد من يعملون بالعلم التجريبي (فيزياء، طبيعة…) ويحققون إنجازات هامة.
أما الآلية التي يتم فيها التّجريب فهناك مبدأ المحاولة والخطأ، والية التَّطور الأدبي في أي أدب قومي.
فاعلية التأثير
وقدمت د. مها خير بيك من لبنان بحثا بعنوان “التّجارب الشّعرية الحديثة، وفاعلية التّأثير” تناولت فيه ثلاثة عناوين، الأول مفهوم التّجربة الشّعريّة، والثاني تنوع التّجارب الشّعريّة العربيّة الحديثة ونواتجها، والثالث الفعل التأسيسي لنواتج التّجارب الشّعريّة. وترى فيه أن التّجربة الشّعريّة هي اختبار يقوم على تفاعل عدّة عناصر أوّلها وجود ظاهرة أول فكرة أو موضوع، وثانيها التحام المشاعر مع هذه الظّاهرة ليتحوّل إلى فكرة تشغل وجدانه ومن ثم تنصهر في مختبره الإبداعي، ولذلك كلما اتّسعت الموضوعات واتّسع أفق المختبر الإبداعي، اتّسع النّص الشعري.
وتتساءل خير بيك إن كان الّشعر العربي الحديث عرف تجارب حققت هذين البعدين.ومما لاشك فيه أن الفضاء العربي يشهد قامات شعرية تركت تجاربها أمثال جبران، نعيمة، شوقي، والسياب، وغيرهم من تجارب أنتجت انساقا متنوعة من الشعر منها الموزون المقفى، والحر، والتفعيلة، لكن هل استطاع هؤلاء أن يؤسسوا لحداثة بفاعلية؟ ومما لاشك فيه أن التّجارب تمنح المنطوق الشعري حضورا متميزا عند هؤلاء، لكن يبقى وجودا ماديا وإضافة تراكمية إذا لم تكن هذه التجربة منظورة بالغرابة والفرادة والأصالة، ومشحونة بالمعاني والرموز والدلالات.
إن الكلام عن التجربة الشعرية يماثل الكلام عن التجربة العلمية مع فارق جوهري يكمن في تمايز مختبرات الشعر ومختبرات العلم، لأن المختبر العلمي مادي وملموس ومصنَّع ومواده ملموسة خاضعة لقوانين علم التَّجريب، لكنَّ مختبر الشّعر فضاء وجداني عاطفي قوامه خيال المبدع القادر على الجمع بين الوعي واللاوعي في لحظة خارجة على الزّمان والمكان، وتتفاعل في هذه اللحظة وبهذا المختبر المكونات اللغوية والمعرفية وتنصهر لتكون ظاهرة شعريّة.
جماليات التّنقيط الفراغي
وقدم د. مرشد احمد من جامعة حلب بحثا بصريّا عن جماليات التنقيط الفراغي في شعر الحداثة، ثنائية التوسيع والتضييق. تناول فيه ماهية التّنقيط الفراغي كحالة حداثوية تميز بها محمود درويش في قصائد عدة وخاصة قصيدتي (أزهار الدم، والقتيل رقم 18) وهي نقاط سوداء تتموضع بين المتتاليات الجملية التي تشكل المقطع الشعري، ومن مظاهر حضورها في قصيدة “القتيل رقم 18”
غابة الزيتون كانت مرة خضراء/كانت.. السّماء/غابة زرقاء..كانت ياحبيبي مالذي غيّرها هذا المساء؟
وضع محمود درويش هنا المتلقي في مواجهة حدث دموي وتحضير حدسه على تصور الفعل الإجرامي المرتكب وإشباع المتلقي شعريا بفعل تعلق التنقيط بكيفية جريان فعل القتل الجماعي. فالتنقيط الفراغي لم يكن تذويقا شكليا بل آلية أنجزت بجدارة نسقا وظيفيا.
آصف إبراهيم