الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

معرض مؤجل..

حسن حميد

أعترف، بأنني، ومنذ أن قرأت الجزء الأول من رواية د. هزوان الوز (معرض مؤجل) قبل نحو عامين، أحسست أنه يكتب رواية العمر، وأنه يتخفف من مشاق واحد من أحلامه الثقيلة كي يراه محبّراً على الورق وهو حب الشام الذي تملك قلبه وعقله، وقيّد سلوكه بالوفاء وعشق المكان، وما له من تاريخ نايف وحضور بهّار!

د. هزوان الوز، يصدر الآن، الجزء الثالث من روايته (معرض مؤجل) التي بناها على ثنائيات جالت في عوالم السرد إلى حدّ الدهشة، وشُغلت بأنساق السرد ووحداته الداخلية إلى حدّ الافتتان، مثل الواقع والخيال، والداني والقصي، والحب والحرب، والبسيط والمعقد، والمتن والهامش.

لبابة الرواية قائمة على مسرودة لحياة الفنان التشكيلي الذي يأتي من ريف مدينة (حمص) إلى العاصمة دمشق، فيعيش مع أسرته في ضاحية (القابون). أبوه عامل في الشركة الخماسية، له فكر اشتراكي، يقدس أفكاره، ويعشق أعلام الاشتراكية. العائلة ديانتها مسيحية، تعيش في وسط اجتماعي ديانته إسلامية، فيتشبع بالثقافة الإسلامية، مثلما يتشبع بروح المحبة التي جعلها مرآة لسلوكه. بعد أن أخذ شهادة الفنون الجميلة يغدو مدرساً، يرسم في البيت لوحات لرموز الاشتراكية كلّفه والده بها، كي يهديها إلى من أحبهم. يسعى الأب عند رفاقه لكي يرسل ولده الفنان في بعثة ليدرس الفنون في موسكو، لكنه يخفق، فيغصُّ قلبه مرات وهو يتلقى رفضهم. وأم الفنان تعمل خياطة، هي الملاك الحارس لأولادها وزوجها، كل ذلك يتبدى في دائرة أولى، توازيها دوائر أخرى، منها دائرة الحرب التي أدخلت البلاد في مُناخ أليم موجع! في الجزء الثالث من الرواية، سردٌ تخلّص من عطش الحكاية والتوق إلى الإحاطة بها، كيما يبدي فنون السرد وجمالياته، عبر تعددية المكان، والأصوات، والأحوال، واللوحات، والوحدات الداخلية المحتشدة بالرواء والمناددة ما بين الجميل والأجمل، والندّاه الندي والمورق الحائر.

الجزء الثالث من الرواية هو مرآة للفن السردي بما حفل به من اشتقاقات وبراعات وبقع أرجوانية أخّاذة من جهة، وهو رحابة الموازنة ما بين دمشق المعشوقة المطوّقة بأنفاس الحرب الحامضية، والبلاد الأمريكية التي مضى إليها الفنان التشكيلي لكي يحقق بعضاً من أحلامه، كي يصير من أهل المال، وكي يملأ الفجوات التي أحدثها الغول الاقتصادي في حياته من جهة أخرى.

صورة راعبة للموازنة بين الحياة المادية، والجفاء العاطفي، والانحناء المذل أمام معطيات الحياة الأمريكية، وبين الحياة في سورية الملأى بالوداد، والأسئلة الاجتماعية، ودنو الآخر من الآخر إلى حدّ التماهي والذوبان. في أمريكا وكما يقول البطل، لا تاريخ، ولا اجتماع، ولا محبة، ولا حضور، ولا حياة من دون الدولار، لذلك يعود من أمريكا بعدما أذهبت المياه الساخنة، والمواد الكيماوية خطوط بصمات أصابعه لكثرة ما عمل في (جلي) الصحون في المطاعم، يعود كي لا ينسى أهله صورة وجهه، وكي لا يفقد آخر شوق من أشواق الحياة.

يطوي القارئ الجزء الثالث من الرواية الواقع في (380) عطشاً وكأنه صفحات عشر ليس إلا، لكثرة ما في السرد من تطريب، ومواقفات للحب، واستلال للروح الإنسانية في حي القابون! على الرغم من أن ترادف صور الحرب وأخبارها ومشاهدها أشبه بحجارة مقلع تتهاوى من علٍ، لأن روح الحب تماشي الأسطر مثلما تماشي أصوات النايات زهو البراري.

هزوان الوز الأديب يكتب حلماً أدبياً يخصّه ويخصّ أبناء جيله الذين راهن على حضورهم ومكانتهم جيل د. عبد السلام العجيلي، وحنا مينة، وصميم الشريف، وعادل أبو شنب، وياسين رفاعية. إنه يكتب نصاً روائياً متفوقاً، سيكون، ومن نواح عدة، تاريخاً للمحبة، وتاريخاً للحرب، والأوفى أنه سيكون تاريخاً لعشق المكان الساحر، والأدب الأتمّ، والإبداع الصافي.. لأن في الرواية عطراً وحباً، وكلاهما لا يعرفان الاختباء أو التواري!

Hasanhamid55@yahoo.com