رأيصحيفة البعث

مضاربون في “بورصة العواطف”

 

لم يعد لمصطلح “تجّار الأزمات” ذلك الوقع والصدى، لأنهم كثر أولاً، وربما هم من يصرّون على دسّه في أحاديثهم، فسفّهوه وأفرغوه من دلالته الدقيقة، وثانياً لأنه أمسى شمّاعة لتعليق الفشل في بعض المفاصل المسكونة بالذهنيّة الذرائعيّة المهزومة.
إلّا أن الوقائع تؤكّد حقيقة الحالة، وأن مشكلتنا معقّدة بعض الشيء بصدد المنظومة المصلحيّة الفاعلة القائمة على تفاصيل أزمة البلد، وهذا ليس بجديد، بل الجديد هو أن شبكة المصالح تداخلت وتعزّزت على إيقاع الحرب على مرّ ثماني سنوات مضت، وأنتجت تيّاراً مناهضاً للإصلاح في أي اتجاه كان، وهنا مكمن الهواجس والخطورة.
ويبدو ملفّ دعم المشتقّات النفطيّة، المادّة الطازجة المناسبة لمقاربة السيرة، فها هم كبار المستفيدين والبارعون في استثمار ثغرات وتشوّهات منظومة الدعم، يصرخون بحناجر صغار المستفيدين، فعلوها سابقاً منذ سنوات ما قبل الحرب بالنسبة للمازوت، واليوم يتكرّر المشهد في موضوع الغاز والبنزين، وكانت الأداة دوماً هي الشائعة والتعبئة السلبيّة لمواطن فيه ما يكفيه من الأوجاع، ولا يحتمل المزيد.
بالأمس أغلقوا محطّات الوقود للإيحاء بفجوة ومشكلة، بمجرّد تسرّب أنباء عن دراسة لتحديد كميّة البنزين المدعومة سعراً لمن يستحقّها فعلاً، وبكفاية تلخّص فحوى الاستجابة لمطلب متزن واستراتيجي قديم، وهو ” دعم من يستحق” من السوريين وليس الوافدين أو سكان الدول المجاورة.
فرقم الوفر اليومي الذي حققه تطبيق البطاقة الذكيّة مدهش، من 5 إلى 3،7 مليون ليتر بنزين يومياً، أي 1,3 مليون ليتر، بقيمة دعم تصل إلى 290 مليون ليرة يومياً، كانت تذهب لصالح سيارات وافدة غير سورية ” لبنانية وأردنية” وفي قنوات التهريب المنتعشة بالفارق السعري الجاذب مع دول الجوار.. ولعلّه رقم كافٍ لتأجيج سُعار “مصّاصي نسغ الدعم” ممن تحوّلوا إلى مناهضين لمساعي تصحيح تشوّهات منظومة الدعم وتصويب اتجاهات الإنفاق عليها في قوام الفاتورة الباهظة حقيقة، والمسجّلة في دفاتر الذمّة على حساب مطلق مواطن سوري!!.
ولا يختلف حال البنزين عن باقي مسارات الدعم السلعي، التي رتّبت مباشرة سوقاً سوداء وتجّاراً ظِلاً يحصدون العلاوات المجزية، عبر التحايل والاستثمار والمضاربة بمخصصات المواطن المدعوم افتراضياً.
ملف الدعم بالعموم بات بحاجة إلى إعادة تصويب وترتيب جديد، تحت العنوان القديم ذاته “إيصال الدعم إلى مستحقّيه الحقيقيين”، بما أن المستحق لم يعد هو المستفيد غالباً، والتصويب مطلب شعبي ملحّ، وليس إجراء تقشّفياً أزموياً، كما يروّج كبار المستفيدين من فبركات، مدّعين الحرص على قوت المواطن، ولقمة المواطن، وغير ذلك من المفردات العاطفيّة والوجدانيّة التي يجري توظيفها كدروع صادّة لأي إجراء يضرّ بمصالحهم.
لعلّه من المتوجّب اليوم تعميم المعلومة المتعلّقة بالتكلفة الإجمالية لفاتورة الدعم في سورية، فالرقم وصل إلى 1،9 تريليون ليرة سورية كتكلفة كليّة لفاتورة الدعم سنوياً، أي ما نسبته 50% من الموازنة العامّة للدولة في العام الجاري 2019، تذهب للقطاعات المدعومة من صحّة وتربية وتعليم وكهرباء ومياه وزراعة ونفط وسلع غذائية بما فيها الخبز، لكنها تخلق التساؤل المطروح بالخط العريض الذي يستفسر عن مسألتين: الأولى من هو المستفيد الحقيقي أو الأكثر استفادة من كل هذا الدعم، والثانية هل تبدو الآلية الراهنة المرتبكة في توزيع الحصص – في كل القطاعات – عصيّة على المعالجة؟؟.
إن استثنينا جزئياً التربية والتعليم العالي، هل نستطيع نفي الخلل الراسخ في إنفاق الدعم المخصص للقطاع الصحّي مثلاً، أو المياه أو الكهرباء، أو حتى الخبز الذي أصبح الحديث عنه خطّاً أحمر في أروقة الحكومة ” دعم إلى الأبد”، رغم أن أصحاب المطاعم والفنادق يتلقون حصّتهم من الخبز المدعوم، ويبيعونها بأسعار التصنيف الذي حظوا به من وزارة السياحة، لكنهم مدعومون كأفقر مواطن ممن أمسى “زادهم خبزاً” وليس إلّا؟؟.
نحتاج الآن إلى بعض الجرأة في علاج شامل لمجمل ملف الدعم الشائك والمزمن، ولو علاج بالتدريج لا بالصدمة، لأن التشوّهات التي تشوب بنيته أساساً، والفساد الذي اعتراه في التوزيع وإدارة الإنفاق يستدعيان عدم التأجيل، ولا قلق عندما يكون من يستحق هو الغاية والهدف، فتغيير الآلية لا يعني أبداً تغيير القناعات أو التوجّهات، بما أننا متفقون على أن المواطن هو الهدف النبيل للدولة وليس لمجرد الحكومة.
ناظم عيد