الإبداع.. وحده
د. نضال الصالح
لماذا يُمضي أحد عمره، بل عقوداً من عمره، يكتب وينشر، شعراً، أو قصة، أو رواية، أو نقداً، أو… أو.. أو هذه كلّها معاً، ويبقى “نكرة” ليس على مستوى وطنه الصغير فحسب، بل أيضاً على مستوى مدينته، أو منطقته، أو قريته، وربّما أسرته نفسها، على الرغم من محاولاته المحمومة للنشر هنا أو هناك، بل من تسوّله النشر هنا أو هناك، وعلى الرغم أيضاً من تقافزه من منبر إلى منبر، ومن توزيعه الأعطيات والهبات والولائم، وربّما غير ذلك، على بعض رؤساء التحرير أو مديري التحرير أو.. أو… ليحظى نصّ له بالنشر في هذه الدورية أو تلك؟.
ما مِن ريب في أنّ الإجابة عن السؤال هي أنه ليس مبدعاً، أو أنّ السبب الأصل في كونه كذلك هو أنّه ليس مبدعاً، ولو كان لوجد نصُّه طريقه إلى النشر من دون أي جواز سفر آخر، ولحظي بالمكانة اللائقة بنفسه ونصّه من دون أن يفعل شيئاً، أيّ شيء، لهاثاً وراء النشر، أو تسوّلاً للنشر، مهما يكن من أمر المعوّقات التي يمكن أن يرتطم بها، فالإبداع وحده، ووحده، هو جواز السفر اللازم للحضور والمكانة والبقاء في ذاكرة القرّاء.
صحيح أنّ ثمّة غير عامل يمكن أن يكون وراء بقاء هذا النموذج، وأمثاله، “نكرة” طوال حياته وبعد مماته، وليس تهافت نصّه وتواضعه وقطيعته مع الإبداع فحسب، لكن الأكثر صحّة هو ذلك، فمهما يكن من أمر ما قد يعوّق الإبداع عن الجهر بنفسه، ومن أمر ما قد يعترضه من إرادات مدمّرة لجهازه التنفسيّ، أو مجففة للماء اللازم لبقائه على قيد الحياة، فإنّ ذلك سيكون شأناً طارئاً، لأنّه ما مِن شيء، مهما أوتي من قوّة النفي أو التغييب أو التهميش، قادر على حجب الضوء عن الإبداع.
غير قليل ممّن وسوس شيطان التوهم له بوصفه كاتباً، يُمضي حياته وهو صريع لوثة اسمها الحضور بالقوّة لا الحضور بالفعل، مهما تكن الوسائل المؤدية إلى ذلك، ومنها حُمّى الظهور على أكتاف الكبار، لعلّ ذلك يدفعهم إلى، أو يرغمهم على، الردّ أو التوضيح، فيصير شبه الكاتب بذلك من حال “النكرة” إلى حال “المعرفة”، وعلى نحو يستعيد إلى الذاكرة ما روته المدوّنات القديمة عن المتنبي حين قيل له: “فلانٌ يهجوك”، فأجاب: “هذا صعلوكٌ يريد أن أردّ عليه، فيدخل التاريخ”.
في “أخلاق الوزيرين” لأبي حيّان التوحيديّ وصفٌ لضرب من الشعراء، يُتبعه بهذا القول: “مَنْ أمكنَ أن يُزحزَح عن الحقّ بأدنى طمع، ويُحمَل على الباطل بأيسرِ رغبة، فليس ممَّن يكون لقوله إِتاء، أو لحكمته مَضَاء، أو لقدَرِه رِفْعة، أو في خُلُقه طهارة”. وفي الواقع ثمّة ضرْب، غير قليل مع الأسف، من “الكتّاب” لا يعنيه من أمر الكتابة والنشر سوى ما يعزّز حضوره، أو يورّمه، أمّا ما يعني قيم الكتابة، بل الثقافة عامة، بوصفها رسالة، فمحضُ “بضاعة” كاسدة، أو محض “كلام” لا يعذُب ورْده، ولا يغزر عدُّه، ولا ينقاد السمع له، ولا يَراح القلبَ به، بتعبير التوحيدي نفسه!.