الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

البادية وأشجان 

عبد الكريم النّاعم

-نحن في سوريّة ليس لدينا صحراء، كما يتوهّم البعض، فالمنطقة الشرقيّة منها، والشماليّة الشرقيّة في بعضها، هي (بادية)، والفارق بين الصحراء والبادية فارق حياتي، فالبادية ما إن يهطل المطر فيها حتى تنبت أعشابها، وهي في سنوات الخير، أعني المطر، تتحوّل طوال فترة الربيع إلى جنّة لا يعرف فتنة جمالها إلاّ مَن عايشها، على قلّة أيّامها، وحين تجفّ هذه الأعشاب تعود إلى شكلها المعهود، بمعنى أنّ هذه البادية لو توفّر لها الماء لَظلّت ترتدي ذلك الثوب السندسي، المشغول من ألوان مئات الأزاهير.

أحد نسور الجوّ البواسل طار فوق البادية هذا العام، فدُهش لما رأى، وقال عنها هذا شيء لا يُشبه إلاّ نفسه.

في ثمانينيات القرن الماضي كان العام عام خير، فذهبنا إلى أحد مضارب البدو في جبل شاعر، أرجّح أنني عاجز عن وصف ذلك الجوّ، وما سأقوله عنها يُشبه الحديث العذب عن الجمال، الأرض سجّادة من أنواع الأزاهير التي لا تُحصى، سجّادة ملوّنة بريشة ربّانيّة لا تُجارى في الخلق والإبداع، والهواء مشبَع برائحة زكيّة أين منها أغلى العطور التي يصنعها الإنسان، والأغنام تلوّن تلك الفتنة بلون أصوافها، وبيوت الشَّعْر تطفو على لجّة من عبير الخيال المفتون بأمدائه اللاّنهائيّة، وزُرقة البلاد الصافية معبّأة بزُرقة الآفاق التي لاتُحدّ.

ذات مرّة ذهبنا لجبل البلعاس في بادية السلميّة، في عام من أعوام الخير، وحين دخلْنا حدود ذلك الجبل الشهير كان الذي فاجأنا ليس ما تبقّى من أشجار البُطم فقط، بل تشعر هنا أنّك تستطيع أن تلمس الهواء.

-في ستّينيات القرن الماضي جرى الكلام عن مشروع جرّ مياه الفرات إلى البادية السوريّة، وهذا يقتضي أنْ تُرفع المياه للهضبة الشماليّة من البادية، وبعد تجاوزها تنحدر الأرض باتّجاه الجنوب، بمعنى أنّ الماء يجري بسهولة وليونة، وهذا يعني أن تتحوّل البادية، حتى السلميّة وتدمر وبادية حمص، أن تتحوّل إلى جنّة يمكن أن تتفتّح مئات المشاريع فيها، غير أنّ هذا ظلّ مجرّد كلام.

-نحن بلد زراعيّ، ويوم اعتمدت سوريّة على تشجيع الزراعة وصلنا حدّ أنّنا نصدّر القمح، ونكتفي غذائيّا، بحكم تنوّع المحاصيل المُنتَجة، وقبل هذه الحرب الوهّابيّة الأخوانيّة لم يكن على سوريّة أيّ ديْن، لأيّ دولة.

-كثُر الحديث عن المخزون الهائل من النّفط والغاز في سوريّة، وتلك ثروة لابدّ من استثمارها، متى لا أعرف؟، بيد أنّ هذا يفرض ألاّ نغفل عن المسألة الزراعيّة، فلسنا بلداً مؤهّلا للصناعة، في حدود ما أعلم، وثمّة خشية من أن تفتر الهمم في الميدان الزراعي، اعتماداً على النفط والغاز، فنكون قد سلكْنا، بشكل ما، طُرق أهل الخليج، فنحلم أن نتحوّل إلى بلد نفطيّ، وما أدري ما إذا كنّا سنقلّد الخليجيين في إقامة ناطحات السحاب في مناطق الإعمار، فنكون قد خسرنا جانبا مهمّا من هويّتنا المعماريّة، وقد تطرّقت لهذا الموضوع من قبل، لأني أشعر أنّ تخوّفي في محلّه، ولذا أعود فأدعو إلى الإصرار على أن تكون واجهات تلك النّاطحات مُقيَّدة بروح العمارة العربيّة، فتلك الرّوح هي الجزء الماديّ المعبِّر عن شخصيّة أبن هذه الأرض، إنّ هذا يعني أن نقاتل على أكثر من جبهة، كما يحدث الآن في مواجهة التكفيريّين في الشمال، والانفصاليّين في الشمال الشرقيّ.

أيّها المعنيّون إنّ اللّحظة التاريخيّة حين تفلت من اليد، يفلت الجزء الصميميّ من الآتي، ونحن في لحظة تاريخيّة يتوقّف عليها مصير أجيالنا، بل مصير أمّتنا، وهو طليعة المصير في حياة الإنسانيّة، فهل نتنبّه قبل فوات الأوان؟!!.

aaalnaem@gmail.com