إدارة الفوضى

د. عفيف دلا
كل شيء يتغيّر من حولنا، والكثير ربما لا يتغيّر فقط في الشكل، بل في المضامين أيضاً، فمحرّك التطور يقضي بتغيّر بعض المفاهيم تماشياً مع حركية المجتمعات، والبعض الآخر قد لا يتغيّر، لأن فيه من الأصالة ما يكسبه صفة الديمومة والثبات، فتزداد قيمته باستمرار ثباته ومقاومته للتغيّر.
وهناك مفاهيم قد لا تتغيّر، فتبهت، ويأكلها صدأ الزمن، ومنها آخر يتغيّر بفعل من يتحكّم به تمهيداً لتغيير مقصود في منظومة القيم الاجتماعية وصولاً لتغيير ذهنية المجتمعات بكاملها، فيُدخلها في كثير الأحيان في صراع قيمي ومفاهيمي بين منظومة المفاهيم القديمة، وتلك الوافدة الجديدة التي يراد لها أن تحلّ محل سابقتها، وتؤسس لمعايير جديدة في فهم المجتمعات لما يجري حولها من متغيّرات وأحداث.
فمفهوم الحرب قد تغيّر اليوم رغم كل ما مرّ به من متغيّرات في المراحل السابقة، وباتت حروب المرحلة الراهنة لا تعتمد على التفوّق العسكري بالدرجة الأولى، أو الكثرة العددية للجيوش، أو براعة التكتيكات المتبعة فيها، وإنما باتت تعتمد على التفوّق في اختراق بنية المفاهيم الإنسانية في المجتمعات المُستهدَفة، والتي من شأنها أن تختصر الجغرافيا، والمسافات الشاسعة، وحركة الأساطيل والطائرات والجنود من خلال فكرة عابرة، أو مفهوم ينتشر مدعوماً بضخ إعلامي مكثّف، وإسقاطات معزّزة له في السينما والانترنت ووسائل الاتصال المختلفة، فيتمّ التصويب على بيئة اجتماعية هنا أو هناك من خلال غزو منظومتها الفكرية والمفاهيمية، والتشويش الممنهج عليها، وتخريب عنصر الأصالة فيها، والتأسيس لصراع مفاهيمي تكرّسه مجموعة أدوات تنتشر من خلال وسائل الاتصال بين الناس، فتخلق بيئة صراع قابلة للتوسّع يتمّ التقاطها مباشرة، ورعايتها من قبل القوى المعادية لتوسيع رقعتها، وتعزيز عوامل الاشتباك والصراع فيها وتعميمها، فتشمل المجتمع بكامله.
اليوم لم تعد المواجهة العسكرية إلا عاملاً يأتي لاحقاً بعد التمهيد لنسف البنية الفكرية للمجتمع، فيكون منقسماً على ذاته قبل المواجهة العسكرية أو حتى الاقتصادية، الأمر الذي يدفع بكل تلك التناقضات وأسباب الصراع الداخلي في المجتمع بأن تطفو على السطح في الأزمات وفي لحظات المواجهة، فتكون الجبهة الداخلية مُزعزَعة هشّة غير قادرة على المقاومة المزدوجة لما يستهدفها عسكرياً بشكل مباشر، من جهة، وبين ما استهدفها ويستهدفها فكرياً ومفاهيمياً، من جهة أخرى.
وبكل الأحوال فإنه من الواضح اليوم أن الحرب العالمية بين القوى المختلفة ترتكز إلى هذه الفلسفة، والتي يتفوّق فيها طرف على آخر بقدر ما يستطيع التأثير في بنيته الداخلية، واستخدام عوامل الانقسام والتفكك الذاتي، بالتوازي مع استخدام العوامل الخارجية من إرهاب عسكري وحصار اقتصادي وضغط سياسي.
الحروب التقليدية ذات تكاليف باهظة اليوم بالنسبة لكل القوى المتصارعة، والنجاح هو لمن يستطيع تحقيق أهدافه على حساب خصمه بأقل كلفة ممكنة، ولذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية اليوم تعمل على إدارة العالم بالأزمات من خلال إشعال بؤر توتر في أي مكان في العالم يؤثّر على فاعلية خصومها أو منافسيها في مجالهم الحيوي، فبؤرة التوتر يتمّ اختيارها بعناية بحيث تقوّض حركية الخصم، وتغلق عمقه الاستراتيجي قدر الإمكان، فيغدو حبيس جغرافية سياسية ضيّقة لا يستطيع معها التمدد على مستوى النفوذ الاستراتيجي، ولا يتمكّن من التعبير عن فاعليته في حدود جيوسياسية ضيّقة.
وعلى هذا الأساس فإن عناوين الاشتباك اليوم بين الولايات المتحدة ومنافسها الروسي أو الصيني عالمياً ترتكز على نشر الولايات المتحدة للفوضى حول العالم لجعله مكاناً مضطرباً غير مستقر تستحيل في خضمه احتمالات الصعود والنمو الاقتصادي، أو بروز التكتلات الاقتصادية الإقليمية والدولية، فضلاً عن استنزاف القوى الإقليمية والدولية في محيطها الحيوي، فتشتبك مع الأمريكي بدلاً من تنمية قدراتها في ذاك المحيط، وتنخرط في صراعات على أعماقها الاستراتيجية، التي تريد الولايات المتحدة إغلاقها أمامها، فتشتعل الصراعات في مناطق مختلفة في العالم محققة غاية أمريكية؛ أولها: إشغال القوى المنافسة لها عن طموحاتها التنموية وتبلور قطبياتها، وثانيها إبقاء مناطق الاشتباك في حالة استنزاف طويلة الأمد دون حسم للإبقاء على واقع الاشتباك، وما يرتبط به من تراجع اقتصادي، واضمحلال للموارد، وزعزعة للبنى الإنتاجية في الدول المستهدفة التي تغدو ساحات صراع مشتعلة.
واقع الحال يقودنا إلى فهم نوايا الولايات المتحدة في الحيلولة دون تغيّر النظام العالمي القائم على قطبية أحادية، ولو شهد تنافساً من قوى صاعدة على المستوى الدولي، فوجود منافس للولايات المتحدة يدفعها لتخريب العالم، ولا سيما المحيط الحيوي للمنافس بحيث تمنعه من بلورة قطبيته، وما يجري اليوم في المنطقة عموماً، وما كان مخططاً له أن يتحقّق منذ بدء ما سمي بـ “الربيع العربي”، وصولاً إلى اليمن، ومروراً بالسودان، وليس أخيراً في فنزويلا، كان يجري في سياق عام لحركية الأحداث على الساحة العالمية، والذي يهدف إلى كسر توازن العالم، ودفع الدول إلى الانخراط في صراعات ليس مطلوباً منها أن تنتهي وفق أي صيغة كانت، وإنما الاستمرار في الاشتعال دون وجود من يطفئ نيرانها، فالعالم اليوم تقوده الولايات المتحدة من خلال إدارة الفوضى فيه، ونشرها في أصقاع العالم، وتسيير حركة رأس المال بعيداً عن مناطق الاشتباك الدولي لتعرف وجهة واحدة هي جيوب الخزانة الأمريكية، فعلى سبيل المثال ليس مطلوباً اليوم أمريكياً أن تشتعل حرب بالمعنى التقليدي مع إيران، فضلاً عن أن الولايات المتحدة غير قادرة على خوض غمارها مع دولة قوية قادرة عسكرياً وفي منطقة النفوذ الاستراتيجي الأمريكي، وإنما تأجيج عنوان الاشتباك مع إيران ليؤسس إلى حالة استنزاف للمنطقة بأسرها وللدول المحيطة بإيران والحليفة معها، وما يرتبط بهذا التأجيج على مستوى البيئات الاجتماعية، واللعب على الوتر الطائفي والمذهبي فيها، أما حسم الاشتباك عسكرياً بقطع النظر عن إمكانيته يؤدي إلى إغلاق هذا الملف، وتوقّف حالة الاستنزاف، والابتزاز المالي المرتبط بها، وبصرف النظر عن نتائج هذا الحسم، فالأجدى هو استمرار الاشتباك، وعدم تكبّد الولايات المتحدة أي تكاليف حقيقية ومباشرة للمواجهة مع إيران.
وفي إطار تعزيز الفوضى في العالم ترسم اليوم خرائط جيوسياسية جديدة تتركز فيها اصطفافات وتحالفات جديدة من شأنها زيادة حدة الاستقطابية الإقليمية والدولية، وخلق مناخ توتر طويل الأمد يقطع الطريق على نهوض مشاريع التكتلات الجديدة، ومنها على سبيل المثال مشروع الحزام والطريق الصيني.
العالم اليوم يسير باتجاه متصاعد نحو التصعيد في الاشتباك الإقليمي والدولي، بما يعزّز مناخ الفوضى، وعدم الاستقرار فيه، في الوقت الذي تديره الولايات المتحدة في أرض منافسيها ومحيطهم الحيوي، وتستخدم أدوات من وحي بيئاتهم الاجتماعية، مرتكزة على اختراق منظومة مجتمعاتهم الفكرية والمفاهيمية؛ التي تسمح بتوليد وإنتاج عوامل الاشتباك، والانقسام الذاتي المحلي ليتلاقى مع العوامل الخارجية التي تستخدمها هي ضدهم.
وعلى دول العالم اليوم حسم ملفات الاشتباك مع الولايات المتحدة من خلال عاملين أساسيين: الأول هو استدارك نقاط الضعف في بنية المنظومة المفاهيمية والقيمية لمجتمعاتهم، وتعزيز منظومة المفاهيم الوطنية، وربطها بمشاريع قابلة للتطبيق محلياً، والثاني هو مواجهة محاولات الولايات المتحدة في إبقاء حالة الاستنزاف الحاصلة في ساحات الاشتباك لاحتواء سياستها، وتقويض أهدافها من خلال تعزيز دور التحالفات الجديدة على مستوى المنطقة، والتي من شأنها إغلاق هوامش الحركة الأمريكية في المنطقة، وعزل منطقة نفوذها الاستراتيجي في مجال جيوسياسي محدود، وبالتالي قلب الطاولة عليها، وفرض طوق من العزلة، والتقييد عليها وعلى أدواتها، وإطلاق مشاريع التشبيك والتكتل الاقتصادي والسياسي لمواجهة السياسة الأمريكية في العالم رغم كل احتمالات رد الفعل الأمريكي، لكن بشكل مدروس وممنهج، لأن الولايات المتحدة لن تتخلى عن قطبيتها العالمية بسهولة، وتعترف بتغيّر النظام العالمي، حتى لو ذهبت ربما لأبعد ما يكون على مستوى التصعيد.