الخصومة في الثّقافة والأدب كظاهرة صحيّة
ثمّة شخصيّات إشكاليّة في التاريخ الماضي والحاضر اختُلِفَ فيها كثيراً من حيث مواقفها ومعتقداتها وآرائها حول مجمل القضايا الاجتماعيّة والسياسية والثقافيّة والتّاريخيّة عموماً، لما أثارته وتثيره من زوابع فكريّة أعطتْ بدورها المجال فسيحاً لقراءاتٍ وتأويلات مختلفة. من هذه الشخصيّات الخلافيّة الأديب “طه حسين” الذي كان له فضل رمي بعض الحصى في قاع مياه الذهنيّة العربيّة الراكدة، والتّجرّؤ على الموروث والمتعارف عليه، منذ كتابه في الشّعر الجاهلي ومروراً بمواقفه من حكّام مصر ومن مؤسسة الأزهر الدينيّة أو آرائه بالقوميّة العربية أو غيرها، لتنهال عليه الاتّهامات من كلّ حدبٍ وصوب مؤكّدةً بأنّه ليس قاصّاً وليس عروبياً، وبأنّه أزهريُّ الهوى، ولا علاقة له بالبحث العلمي.
والجميل في الأمر أنّ الأديب الكبير تلقّى كلّ هذه الصّفعات بوجهٍ بشوش وصدرٍ رحبٍ، فلم يدافع عن نفسه من موقع المتّهم بل من موقع المحاور السّجالي المتّزن، العارف بأنّ هذا الحراك هو دليل صحّة ثقافيّة لا العكس. لم يفرح للمدح باعتباره ميزة ولم ينزعج من الذّم باعتباره انتقاصاً، بل اعتبر أنّ الأدب الذي لم يثر السّجالات والاختلافات في الرأي التي لا تفسد للودّ قضيّة، هو أدب معطوب لا يقدّم إضافة تذكر، فالزمن هو وحده من سيغربل الغثّ من الثّمين، وهاهو يعترف بأريحيّة تامّة أنّه ليس قاصّاً فيقول: “وصلتْ إليّ أصداء حملة رقيقة أو عنيفة نهض بها بعض الكتّاب ليثبتوا أني لا أحسن كتابة القصّة بل ليثبتوا أنّي لا أحسن الكتابة لا في القصّة ولا في غيرها، وهذا كله حقّ لاشك فيه، فما زعمتُ في يوم من الأيام أنّي قاص أجيد فنّ القصص أو أقارب جادته، وأحبّ أن أرضي هؤلاء الأدباء الكرام من شبابنا فأؤّكد لهم مخلصاً أنّي لم أعتقد قطّ أنّي كاتب جيد، ولم أصدّق قط أنّي أديب ممتاز، ولم أفهم هذا اللّقب الذي أهدي إليّ فجأة ومن غير وجه وعلى غير تواطؤ من الذين أهدوه إليّ فسمّوني عميد الأدب العربي” وبخصوص اتهّامه بأنّه أزهريّ الميول يقول: “نشأتُ في الأزهر بلا شك ولكن ما رأيهم في أنّ الأزهريين قد لفظوني منذ زمن بعيد؟ أقصوني عن الأزهر حيناً ثم ردّوني إليه بعد ذلك، فلمّا تقدّمتُ لامتحانهم نهائيّاً وظننتُ أني سأظفر بإجازته الأخيرة ردّوني عن هذه الإجازة أعنف الردّ فحمدت الله على السلامة، وقنعت من الغنيمة بالإياب، ثمّ رفضني المثقّفون ثقافة أجنبية لأنّي أزهريٌّ لا أعرف من ثقافتهم الأجنبية إلا القشور.. هكذا كنت طالباً للقشور عند الأزهريّين ومتعلّق بقشور الثقافات الأجنبيّة عند المتأصّلين في هذه الثقافات. لأغدو صاحب قشور وأنا شابّ وصاحب القشور وأنا شيخٌ، ورحم الله “لبيداً” الذي أحسن لي ولأمثالي النصيحة بقوله:
فاقنعْ بما قسم المليك فإنّما قسم الخلائق بيننا عَلّامها
وحول اتّهامه بالبعد عن الموضوعيّة في البحث العلمي والأدبي، يقول: “كنت أصدر بعض الكتب كما يصدر الأساتذة الجامعيون بعض الكتب فكان الناقدون لهذه الكتب يقولون ما لهذا الرجل وللبحث العلمي والأدبي مع أنّه ليس منهما في شيء؟ وهكذا أنكرني الجامعيّون في بعض الوقت وأنكرني غير الجامعيين من الأدباء في بعض الوقت أيضاً”.
بخصوص موقفه من القوميّة العربيّة التي كان يحمل لواءها “ساطع الحصري” يجيب محاورَه بكلّ صراحة: “إن كنتَ تقصدُ بذلك تضامناً ثقافيّاً بين البلدان العربيّة فإنّ مصر مستعدّة للدخول فيه وأنا من أنصاره ودعاته، وإنّي أنادي بتوحيد برامج التّعليم في جميع الأقطار العربيّة وتسهيل التّبادل الثقافي بينها وإن كنت تقصد التعاون الاقتصادي فهو ممكن أيضاً ومفيد. أمّا إذا كنت ترمي إلى أنّ مصر مستعدّة للمساهمة في الوحدة العربيّة أو القوميّة العربيّة فأنت على خطأ، فالمصري قبل كلّ شيء لن يتنازل عن مصريّته مهما تغلّبت الظّروف.. المصري فرعونيا، قبل أن يكون عربيّاً”. وحول اتّهامه بامتداح البلاط يقول مبرّراً بأنّه كسب من خلاله فائدة كبرى لمصر وأهلها مما أتاح لهم التعليم وإنشاء معاهد كثيرة في أنحاء العالم” . وهاهو يشارك في السّجال حول القصّة في مصر قائلاً: “من حقّ الأستاذ سلامة موسى” أن يزدري الأدب المصري المعاصر وليس على الأدب المعاصر بأس من حكمه مادام غير الأستاذ من الناس يستطيع أن يُكبِر ما ازدرى وأن يعرف ما أنكر وأن يحبّ ما كره، فالخصومة قوام الأدب بين الأجيال القديمة والحديثة، والخصومة بين الأدباء الذين يعيشون في جيل واحد وأكاد أقول إنّ الخصومة قوام الحياة، وهل المذاهب الأدبيّة والفلسفيّة المختلفة إلا نتيجة للخصومات بين الأدباء والفلاسفة؟ أحقّ أنّ الخصومة بين العقاد والمازني وشوقي لم تكن إلا تجريحاً وهدماً؟ فالحقّ أنّ هذه الخصومة قد فتحت للمعاصرين من الأدباء المصريين أبواباً جديدة في الفن وآفاقاً جديدة في النقد وعلّمتهم أنّ الشعر لا ينبغي أن يكون تقليداً للقدماء.. إنّ جريراً والفرزدق والأخطل قد أنفقوا عمرهم يهجون بعضهم بعضاً فلم يهدم أحد منهم أحداً، ولم يخرج أحد منهم أحداً من زمرة الأدباء، فلتشعّ جذوة الأدب إذن وليسطع لهيبها، ولا بأس بأن نكون نحن الأدباء وقوداً لهذه النار”.
أوس أحمد أسعد