الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أقمار.. ثلاثة!

حسن حميد

كثيرة، وكثيرة جداً.. هي الحالات والمفاهيم والتصورات التي صححتها الأزمنة في كرّها الدائم كي تبدو في أمكنتها وأحيازها الحقيقية، المنارة منها وغير المنارة، وقد عرفت الحياة الأدبية مثل هذا الأمر، أعني الإطناب غير الواقعي، والتبخيس الجائر، فمؤلفات كثيرة لاقت، في أوقات وظروف ما، ثناءات وأماديح لم تنلها الأنهار أو البحار أو الغابات، ثم وحين زالت تلك الأوقات والظروف عادت إلى حجمها الحقيقي، فانصرف عنها الناس، لأن تلك الثناءات والأماديح لم تكن سوى زبد أو قناع، ومؤلفات كثيرة كانت مهمة، وفيها جمر إبداعي وقّاد، وروح قادرة على الاشتقاق المدهش، لاقت الإهمال والازورار وحيّدت، أو أنها قذفت بالرجم وبما لا يليق بها من أوصاف، أو أنها لم تعرف من الحضور والانتشار إلا القليل..

أقول هذا، وأنا أقرأ خبراً طويلاً جميلاً عن ترجمة الأدب السوري إلى اللغة الفارسية الذي يلاقي حفاوة غير معهودة داخل الجامعات الإيرانية، وفي دور النشر، ومن قبل النقاد أيضاً، وأن هذا الأدب هو مدار بحث ليكون في صلب الرسائل الجامعية التي يقدمها طلاب الماجستير والدكتوراه، وأنه بات اليوم في طبعات متعددة لأن القبول عليه من القراء بات كبيراً.

ومن هذه الأعمال الأدبية السورية التي لها الحظوة اليوم في مجال الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الفارسية أعمال الأدباء: نزار قباني، وكوليت خوري، وغادة السمان، وهم الأدباء الذين بنوا شهرتهم بالموهبة الثقيلة، والإبداع الصافي، والاجتهاد الذي لا تعريف له سوى الإخلاص، على الرغم من أن الظروف التي أحاطت بهم لم تكن هي المثالية، ولا الموضوعية، ولا هي الظروف التي سمحت بقراءة إبداعهم برواء بعيداً عن مناقلات الكلام الرجيم.

نزار قباني، مدونة الشعر وقلعته، أُلفت كتب كي تحطّ من موهبته وقيمته الإبداعية، وعادته منابر كثيرة، وصدت عنه دور نشر كثيرة، في زمن كانت ظروفه باهتة ومحتشدة بالزيف، ولولا الموهبة الكبيرة التي عرفها في روحه، وإيمانه بدور الشعر والثقافة والأدب لما استمر نزار قباني بالكتابة والإبداع، ولاسيما أن محاولات كثيرة أرادت شيطنة شعره، وشيطنة حياته، واتهام رؤياه بالمجون والعبث.

وكوليت خوري التي ناددت أهل الرواية العربية، وسدنة السرد في مصر، وسورية، ولبنان، والعراق، وهي في بدايات مشوارها الأدبي بالموهبة العفية، والمقدرة الإبداعية، والرؤى الباصرة التي شقّت دروب الحرية والتعبير والحضور أمام المرأة بوصفها بانية المجتمع وصورته وأمام الرجل ليعرف قيمة المرأة.. هي أيضاً لاقت ما لاقته من صدود وتجاهل وازورار من المنابر والنقاد في ظلّ ظروف شائهة قدمت الحطب على الأشجار، والسواقي على الأنهار، والضجيج على الهدأة، والقريص على البنفسج، ولولا عشقها للأدب والثقافة، وإيمانها بأدوار الإبداع الكثيرة في حياة الناس والمجتمعات والأوطان، لما كانت كوليت خوري أعطت ذوب روحها للكتابة والإبداع كي تعبّد الدروب بالنورانية.

وغادة السمان حيّدت شؤون حياتية كثيرة ونحّتها، وهي في العشرين من عمرها، من أجل الكتابة والإبداع، فاقتحمت منابر كانت حكراً على بعض الاتجاهات الفكرية، وحكراً على بعض الأسماء، وحكراً على عالم الذكورة، فتصدرتها بالموهبة الشارقة، والفطنة التي وسمت أعمالها جميعاً، ومع ذلك ظلّت الكتابات ذات الأنفاس الحامضية تثار ضد إبداعاتها، ولولا مُكنتها المعرفية بعالم النص لكانت روحها غرقت في المديح الإنشائي الضار.

اليوم، هؤلاء الأدباء/ الأعلام الثلاثة تتصدر مؤلفاتهم المنقولة من اللغة العربية إلى اللغة الفارسية المشهد الثقافي الإيراني الخاص بالترجمة، فرواية كوليت خوري /أيام معه/ تدرَّس في الجامعات، وتدار حولها دراسات شهادات الماجستير والدكتوراه، وقصائد نزار قباني وقصائد غادة السمان باتت مجالاً للمقارنة مع قصائد شعراء وشواعر من إيران لرصد الخط البياني لتحرر المرأة ودور الأدب في بلورة حضورها، وجلو مكانتها.. بلى، أقمار ثلاثة بادية اليوم بلغة أخرى.. لأن مواهبها فيّاضة كالأنهار.

Hasanhamid55@yahoo.com