دراساتصحيفة البعث

القوى الكبرى و إعادة صياغة الاقتصاد العالمي

ترجمة وإعداد: عناية ناصر
يأخذ الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين أهمية خاصة من وجهة نظر التغيرات الجيو اقتصادية العالمية المستمرة، فحتى لو حل النزاع في المستقبل القريب ، ستبقى الدوافع الكامنة وراء المواجهة ، تواصل تأثيرها على طبيعة العلاقة بين القوتين الاقتصاديين الأكبر في العالم، فالعلاقة بين الولايات المتحدة والصين ليست محصورة في التجارة بل تشمل أيضاً مشاريع النقل والطاقة، والمشاركة في المنظمات السياسية والاقتصادية الدولية ، وتنظيم العملة.
وفيما يتعلق بجوانب العلاقات الثنائية هذه ، ينبغي للمرء أن يتوقع أن تظل الولايات المتحدة والصين تعارضان بعضهما البعض في المستقبل المنظور. يحاول كلا البلدين تجيير العالم لمصلحتهما، وإعادة صياغته وفقاً لهذه المصلحة، بما في ذلك تدفق التمويل، وطرق نقل الطاقة، وهياكل الاتحادات التجارية والاقتصادية الدولية.
نحن نشهد بداية إعادة تنظيم للاقتصاد العالمي ، والتي من المتوقع أن تستمر لفترة من الوقت، بعد أن بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين ، وسيستمر الانتقال إلى نظام عالمي جديد فترة طويلة. ويعود ذلك إلى استمرار عدم التماثل في سلام “ما بعد أمريكا” ، حيث تقاوم الولايات المتحدة النظام العالمي الجديد. وعلى الرغم من ذلك ، فإن الحرب الكبرى مستحيلة ، بسبب التدمير المؤكد المتبادل.
تعكس أسباب إعادة التنظيم الجيو-اقتصادي العالمي المصالح بعيدة المدى للاعبين الدوليين الرئيسيين، فمنذ انتخاب دونالد ترامب ، تعمل الولايات المتحدة الأمريكية مدفوعة بإيديولوجية التجار الجدد، والتي تم التعبير عنها بشكل مناسب في شعار “أمريكا أولاً”، أما فترة الانفتاح العالمي التي نشأت بسبب الهيمنة العسكرية والسياسية للولايات المتحدة في أعقاب الحرب الباردة فقد انتهت، ويعود السبب في ذلك إلى حد كبير إلى توقفها عن أن تكون مربحة لأمريكا نفسها. وبغض النظر عمن يفوز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020 – ترامب أو منافسه – فإن على الرئيس الأمريكي القادم أن يفهم أن الانفتاح على العالم له حدوده.
لأن الواقع الناشئ يرتبط بأن الصين تمكنت من الاستفادة من الانفتاح العالمي ، وهي لا ترغب في الوقت نفسه في الانفتاح على الشركات الأمريكية (مثلما فعلت روسيا في التسعينيات)، كما أن الضغوط على بكين لن يكون لها التأثير المطلوب، فقد أصبحت الصين قوة اقتصادية عظمى ، واليوم تدعم قدراتها الاقتصادية بزيادة قوتها العسكرية.
يمكن أن تصبح الصين أساساً لمفهوم الحفاظ على الانفتاح العالمي ، ويمكن أن تفتح أسواقها جزئياً أمام السلع الأمريكية، ليس مقابل التراجع إلى المراكز السابقة ، ولكن بشرط أن تكون هذه التحولات الجيو اقتصادية مفيدة لبكين. إذاً ستواصل القيادة الصينية متابعة الفرص الناشئة للدمج التدريجي للبلدان المحيطة في مبادرة الحزام والطريق، واستغلال طريق بحر الشمال وموارد الطاقة في روسيا والشرق الأوسط وفنزويلا، وتطوير مشاريع التجارة والاستثمار في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا، و ستستمر مقاومة الولايات المتحدة لتزايد النفوذ الصيني، لكن بتأثير محدود.
لذلك إن الآثار المباشرة لإعادة صياغة الاقتصاد العالمي غير واضحة، إذ ستواصل الصين مقاومة هيمنة الولايات المتحدة ، وبالتالي فإن النزاعات الثنائية المستقبلية أمر لا مفر منه ، وسيزداد معها خطر حدوث ركود اقتصادي عالمي. سيستمر اتجاه الانفتاح في الوقت الحالي ، ولكن في مساحات جيو اقتصادية أكثر وأكثر محدودية. وإذا قدمت الصين تنازلات، فسيكون هناك قبول مؤقت لأمريكا كقوة عظمى، منشغلة بالديون الخارجية وخفض العجز التجاري ، لكن الولايات المتحدة لم تعد مهتمة بالحفاظ على الانفتاح العالمي في ظل نفس الظروف. سيؤدي هذا فقط إلى دفع بقية الدول نحو الانكفاء، والعالم نحو مزيد من الإصلاح الجيو اقتصادي. على أية حال ، سيتم بناء منطقة أوراسيا الكبرى نتيجة لزيادة تعاون القوى الإقليمية وسط تراجع نفوذ الولايات المتحدة.
وفيما يتعلق بروسيا، فإن الظروف الناشئة مفيدة، ليس بسبب تردي العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، ولكن بسبب عدم تقارب مصالحهما. لا يمكن لمشاريع “الصين أمريكا” ​​التي اقترحها الاستراتيجيون الأمريكيون أن تلبي مصالح روسيا بأي شكل من الأشكال ، حيث إن هذه المشروعات تعتمد على قدرة موسكو على المناورة الجيو سياسية بشكل مستمر. ستكون هناك صعوبة في حل المعضلة الجيوسياسية في روسيا ، والحفاظ على وضع الدولة ضروري لاستمرار تأثيرها الخارجي أثناء تنفيذ الإصلاحات الضرورية لإعادة التأهيل الداخلي ، إذا ما واجهت موسكو ضغوطاً خارجية منسقة.
من ناحية أخرى ، من شأن تردي العلاقات الأمريكية الصينية بشكل خطير أن يجبر روسيا على الانحياز إلى طرف ، وهو خيار صعب للغاية، فوقوعها بين اثنين من العمالقة وفي وضع اقتصادي ليس قوياً ، سيتعين على روسيا التضحية ببعض امتيازاتها. لذلك ، فإن تعميق التعاون متبادل المنفعة مع الصين يتطلب الحفاظ على العلاقات الروسية مع الغرب ، بما في ذلك الولايات المتحدة ، ويعتمد على قدرة روسيا مواصلة النمو والتنمية.