دراساتصحيفة البعث

الغوغائية الشعبوية في أمريكا

إعداد: علاء العطار

يقول فريد زكريا في مجلة فورين أفيرز إن “الشعبوية تعتبر نفسها تتحدث باسم الشخص العادي المنسي، وغالباً ما تتخيل أنها صوت الوطنية الحقيقية”.

تعمل السياسة الأمريكية اليوم في حلبة تُلوى فيها الحقائق لتتناسب مع مصالح معينة لأشخاص نافذين وتجار انتهازيين، وباتت جميع الحقائق موضع شك، إذ أن الحقيقة التي تروى لها أهداف محددة. واجتاحت الموجات الشعبوية والقومية العديد من الجمهوريات في الغرب، وأصبحت تمثل تحدياً لقيم الديمقراطية الليبرالية، فالشعبوي يعتقد أن الإنسان العادي يمتلك أعلى درجات الفضائل وحكمة عملية مرموقة.

والسياسيون أمثال خيرت فيلدرز في هولندا، ونوربرت هوفر في النمسا، ومارين لوبان في فرنسا، ونايجل فاراج في المملكة المتحدة، جميعهم يشاركون دونالد ترامب انجذابه إلى فكرة المواطن العادي ويستأثرون بالهوية الوطنية في الوقت ذاته، ويصعب علينا تفريق الشعوبية عن الفاشية الجديدة، وبات تهديدها للديمقراطية واضحاً حيث يطالب المواطنون بإجابات سريعة عن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المعقدة والطويلة الأجل. للشعبوية وجهان، فهي من ناحية قد تكون منشئ التغيير الإيجابي وحقوق الإنسان الموسعة، كما حدث في حالة المهاتما غاندي أو مارتن لوثر كينغ، وقد تكون من ناحية أخرى علامة على حريق سيلتهم الحريات والمجتمعات المحلية والآداب العامة ويحيلها إلى رماد، كما حدث في حالة هتلر أو منظمات “كو كلوكس كلان” العنصرية.

لا تتشابه الشعوبية أبداً مع العدالة الاجتماعية، ورغم أنها تلوي الحقائق في كثير من الأحيان لتُظهر أنها تمثل عامة الشعب، إلا أنها تستخدم هذا الأسلوب لصرف الانتباه عمّا هو في الحقيقة استغلالٌ وفوضى بل وحتى اضطهاد للأناس العاديين. ولا يجب أن تتم زيادة حقوق وحريات أي مجموعة بعينها على حساب المجموعات الأخرى، مثلاً إن أي جهد لتنظيم حيازة الأسلحة النارية، أو لمنع حيازة الأسلحة الهجومية، هو جزء من حقوق أولئك الأشخاص بموجب الدستور الأمريكي الذي يجيز امتلاك وحمل السلاح. والأكثر من ذلك عدم وجود توضيح لحق حيازة الأسلحة، ماذا يعني “حمل السلاح”؟ ما هو تعريف “الأسلحة” في جميع الحالات؟

يقول جان فيرنر مولر في كتابه “ما هي الشعبوية؟”: لا يكمن الخطر على الديمقراطيات اليوم في بعض الإيديولوجيات الشاملة التي تنكر المُثل الديمقراطية بشكل منهجي، بل يكمن في الشعبوية، وهي شكل منحطٌّ من أشكال الديمقراطية التي تعد بتحقيق أعلى مُثُل الديمقراطية. والشعوبية هي تخيل تزمتي محدد عن السياسة، وهي وسيلة لفهم العالم السياسي الذي يضع أشخاصاً أنقياء أخلاقياً متحدين تماماً – ولكنهم أشخاص خياليون في النهاية – في مواجهة النخب التي تعتبر فاسدة.

وعارض أفلاطون السياسة الشعبية في كتابه “الجمهورية”، إذ جادل بأن الإفراط في الديمقراطية سيحثّ المواطنين على موالاة رجل واحد يعتبرونه قائدهم. والديماغوجية تعد بالحرية كهدف للشخص العادي، وبالتالي قد تستولي الجماهير “المحررة” على ملكية الأثرياء بينما تغدو النخب والأثرياء “أعداء للشعب”، ويتم القبض عليهم كالمجرمين، وتنفي الحشود الغاضبة الطائشة “النخبة” المستهدفة أو تعدمها، كما حدث لسقراط. وحذر أفلاطون من أن أولئك الذين لا يعرفون إلا كيف يحكمون قد يسيطرون على دولة المدينة، التي كان يطلق عليها آنذاك اسم “بوليس”، ومع اشتداد نوبة الكراهية والأنانية، سيدركون غايتهم ويدمرون مبادئ الآداب العامة والحوار والسعي لتحقيق الخير.

وأحد الخصائص الرئيسية التي تفرق بين أنواع الشعوبية هي الطريقة التي يتم فيها بث الخوف في الخطاب والدعاية وكذلك أيديولوجية الحركة المفترضة أو الوليدة. يختبئ الوهم الكبير في الاعتقاد بأن الناس العاديين عند قيامهم بدور الغوغاء يشاركون في العمل الديمقراطي، أي عندما يولد الخوف حركة فإنها ستكون تهديداً للحرية، إذ سيتولد عن هذا الخوف الاستياء والكراهية والإقصاء وحصول الفرد على حقوق على حساب “الآخر”، وهذه بالطبع ليست ديمقراطية، وعنصر الخوف في خطاب الحركات الشعبوية يُلهم الأوهام المتعصبة، وحيثما يوجد الخوف سنجد الجهل والغضب والكراهية والعنف.

الخوف عند أدولف هتلر ودونالد ترامب

ينظر التاريخ إلى أدولف هتلر على أنه وحش خبيث، وكان الخوف أداة الدعاية الرئيسية عند هتلر. واستخدام استراتيجيات الخوف الشائعة يُظهر فعاليتها والأخطار الناشئة عنها. واستخدم هتلر عدداً من الإسقاطات على بعض فئات الشعب ووظف الخوف فيها، كادعائه بأنه قادر على إيجاد علاج لمشاكل ألمانيا في أكباش الفداء، فنسب الأمراض السياسية والاجتماعية في ألمانيا لأكباش فداء كاليهود والغجر والسياسيين الليبراليين والاشتراكيين وما إلى ذلك، وبذا أصبح “الآخرون” العدو.

والشعبوية الوطنية للرئيس ترامب تستخدم تقنية مماثلة فهي توظف الخوف أيضاً من خلال أكباش الفداء. ولتشجيع الخوف والغضب، أبرز دونالد ترامب مجموعة من أكباش الفداء الأمريكيين الذين يشكلون جزءاً من النسيج المجتمعي الداكن، كوسائل الإعلام والمسلمين والمهاجرين واللاجئين والمكسيكيين والليبراليين والاشتراكيين والملحدين، جميعهم أكباش فداء عند ترامب، حيث أعلن مراراً ، خاصة على تويتر، أن هؤلاء الأشخاص يمثلون جذور “المذبحة الأمريكية”.

ووظف هتلر الخوف بشكل فعال في استغلال الإحساس المنحرف بالكرامة الألمانية. وتبعاً للنازيين، كان متاحاً لجميع أفراد الشعب الألماني نوع خاص من الكرامة، وإن أرادوا اكتسابه فعليهم العيش والتفكير بالطريقة التي يراها النازيون صحيحة، وربط النازيون طريقة العيش الصحيحة والأفكار الصحيحة بالعرق الآري.

هذه التقنية هي حيلة شائعة عن الحركات الشعبوية الوطنية، وهو ما نجده في نداءات دونالد ترامب التي تستند إلى ثلاثة مبادئ أساسية: ( الرأسمالية غير المقيدة، – القيم اليهودية المسيحية- القومية الوطنية). وكما بين ترامب، لا توجد انقسامات في أمريكا طالما ظل الأمريكيون لا يقبلون إلا بوطنية واحدة وقومية واحدة. وفي خطاب توليه الرئاسة عام 2017، صاغ ترامب الأمر على النحو الآتي: “سيكون الولاء التام للولايات المتحدة الأمريكية في صميم سياستنا، ومن خلال ولائنا لبلدنا، سنكتشف ولاءنا لبعضنا البعض”.

تخلق هذه التقنية فصلاً مصطنعاً بين “الأمريكيين الحقيقيين” وكل من تبقى، وهم الذين سيتم استبعادهم إن لم يرغبوا في الانضمام، ومن لا يوافق على هذه القيم “المشتركة” ليس مرحباً به في أمريكا، ويستغل ترامب الخوف من المهاجرين، وخاصة المسلمين، أو من المهاجرين غير الشرعيين الذين أتوا من المكسيك والذين يعتبرهم ترامب تجار مخدرات ومغتصبين. وبناء على ما ذكر، يوظف ترامب سياسة كبش فداء والاستياء والإقصاء كقوة دافعة لآلة دعايةٍ ترتكز على الخوف، ولا يختلف في ذلك عن هتلر.

هل سيخوض الأمريكيون معركة فلسفية ضد أمثال ترامب دفاعاً عن القيم الديمقراطية؟ إذ لم تظهر الشعبوية الوطنية من العدم، في الواقع، تتصاعد القومية والخوف أيضاً بفعل الأعمال الأنانية لأغنى فئات النخبة في الغرب ككل، فهم الذين حاولوا في نهاية القرن العشرين انتزاع الانتشار الناجح للثروة والموارد والحقوق بين الطبقات الوسطى والعاملة منذ الحرب العالمية الثانية، وما انحصار الثروة في أيدي أقلية من الناس إلا أحد الدلائل على تمرد النخب الغربية والأمريكية المحافظة على مصطلحات “الحرب الطبقية” والعنصرية في السياسة.