ثقافةصحيفة البعث

عبد الكريم اليافي المفكر الموسوعي والأديب البارع

 

لن يتاح لأي إنسان أن يتجاوز محدوديته أو بالأحرى انغلاقه مالم يفكر فلسفياً، إذ أن الفلسفة في أعماقها ليست إلا أسئلة بريئة وأجوبة شجاعة، ومحركها الرئيس هو الإنسان، وفي التاريخ السوري العريق الكثير من الفلاسفة وأهمهم عبد الكريم اليافي الذي كان أحد قامات الفكر والأدب والحياة في الندوة التي حملت عنوان: “عبد الكريم اليافي المفكر الموسوعي والأديب البارع”.

المعرفة الاجتماعية
عٌرف د. اليافي بتواضعه العلمي المشهود به ومواقفه الإنسانية فقد كان أباً وصديقاً وأستاذاً مفكراً وزميلا يختصر مسافة الأجيال، وتحت عنوان “الرأس مال المعرفي والاجتماعي عند المفكر عبد الكريم اليافي” قال د.عدنان مسلم:
قدم د.اليافي الإنتاج المعرفي الوفير للعلم ورواده، الرأس مال المعرفي والاجتماعي عنده كان من خلال كتبه ذات العلاقة بالثروة المعرفية الاجتماعية. ويرى د.اليافي أن علم الاجتماع علم حديث النشأة والسبب الذي أخّر نشوءه هو الانسياق بالحياة الاجتماعية التي تطغى في اتساعها وتتعدد وجوهها في حياة الإنسان الفردية والعضوية والنفسية من حيث احتجاب حياتنا الداخلية النفسية وراء شخصياتنا التي صاغها المجتمع، أو قرار أن حياتنا النفسية هي نتاج تلك الحياة الاجتماعية التي تمارس دور المراقب كما تحدث “فرويد” أو تدخلات المجتمع القوية والعميقة في الأمور النفسية الفردية كالإرادة.
والمحور الآخر في الرأس مال الاجتماعي لشخصيته الذاتية بما تجسده نظرية “الرأس مال الاجتماعي” لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو بتطبيق عناصرها المتجسدة في عامل الثقة وعامل العلاقات الاجتماعية وعامل القيم المنظومة القيمية.

بحر زاخر
كان د. اليافي آخر الموسوعيين العرب ورجلاً يجمع ثقافة عالية المستوى تعيدنا إلى القرون الأولى للهجرة تحديداً في العصر الذهبي للخليفة العباسي والمأمون حيث نجد علماء كلام وفلاسفة ومترجمين وتحت عنوان “قراءة في آراء اليافي الفلسفية” قال دكتور قسم الفلسفة في جامعة دمشق علي اسبر:
تابع اليافي الدرب الشاق في الفلسفة فلم يركز اهتمامه في الأبحاث الفلسفية البحتة أي أنه لم يعن بوضع نظريات في مباحث الفلسفة الثلاثة الرئيسية “علم الوجود ونظرية المعرفة وعلم القيم” وإنما عني بالانفتاح على العالم بما يمكن تسميتها إشعاعات كثيفة من الحدوس الفلسفية، إذ أنه يتجه نحو اكتناه العالم لا بإقحام العقل فيه لفرض مقولاته عليه، بل لإحداث نوع أو ضرب من التمازج الوجداني معه، ذلك أن اليافي كان معولاً في فهمه للوجود على عيانات ثاقبة واستبصارات عبقرية وانكشافات صوفية علاوة عل فهمه العلمي العميق للعالم.
كما كان اليافي معنياً بالدرجة الأولى باللغة العربية وذو رؤية ثاقبة معمقة في اللغة ويثق بها بما تحتوي على فضائل ضمنية ليست للغات انقرضت مثل اليونانية أو اللاتينية، وإن كانت اللغة العربية تعاني من صعوبات إلا أنها قادرة على التعبير –في رأيه- في شتى المجالات والميادين فمثلاً قادرة في المجال العلمي الدقيق وفي مفاهيم الفلسفة العالية المجردة، وكذلك على مستوى الشعر والأدب والمسرح، وتحتاج إلى جهود بنيوية داخلية من أجل النهوض بها ورفدها إلى سوية اللغات المتداولة الآن من الألمانية والانكليزية والفرنسية، بالإضافة إلى اعتقاد اليافي أن اللغة العربية هي امتداد للغات قديمة عريقة، هذا الجانب دفعه للاهتمام بالتراث العربي وقد ميز داخله عدة بنيات منها البنية الفقهية التي وجد أنها تؤول القرآن الكريم تأويلاً ظلامياً وتشكل خطراً على مستقبل الأمة العربية، ووجد في الموروث الصوفي أفقاً عظيماً للنهوض بالإسلام على نحو يدل على احتوائه لعناصر تطويره من الداخل، ومن هنا جاء إعجابه بالشيخ محي الدين بن عربي، ويضاف إلى ذلك أنه كان عالم اجتماع ومؤسس لعلم السكان وكان معنياً بالعلوم الفيزيائية، في النهاية يمكن وصفه بالبحر الزاخر من العلوم والثقافة.

حصاد الظلال
وقال مدير الندوة د. إسماعيل مروة: كان لليافي مجموعة كبرى من الدراسات والمقالات، وعندما كان يتحدث في اللغة كانت تتفتح اللغة في يديه، أما في الشعر ففيه نوع من النقد، فقد أصدر ديواناً شعرياً بعنوان “حصاد الظلال” وعند قراءته مع ديوان د.عمر فروخ “فجر وشفق” واستعراض سيرة الرجلين أجد أن كلاهما من أصحاب الدكتوراه في الفلسفة، وعندما يتحدث الفروخ عن نفسه نكتشف أن الدكتوراه ليست في مادة الفلسفة وإنما كلمة تضم الفلسفة والاجتماع والأدب وأشياء أخرى، ولكن الفروخ من مدرسة ألمانية وكان عنيداً جداً واليافي من مدرسة فرنسية وقد كان أكثر ليناً ولطفاً.
ويضيف مروة: عند قراءة “حصاد الظلال” نجد شعراً عالياً في لغته وأوزانه وبحوره فهو ليس شخصاً مجرباً للشعر، ونجد شاعراً يجيد الشعر فناً ونظماً لكنه لا يمتلك ولا يقبل أن ينزل من مكانته الفكرية والفلسفية والمعرفية ليجاري الشعراء في جنونهم وأدبهم وصورهم وهو أمر طبيعي.
في ديوان “حصاد الظلال”-يتابع مروى- وجدت أن الشعر عقل والعلم سراج بمعنى لا نقف أمام شاعر بقدر أننا أمام شخص يفلسف الأمور ويبنيها ليكون هادياً، مثل شعره عن الزواج نكون أمام محاكمة عقلية وليس أمام شاعر يتعامل مع المرأة.
جمان بركات