الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

أيقظتني.. والكون في سبات!

سلوى عباس

كما غمامة يهطل غيثها في الليل، وكما برتقالة تفشي سرّ عطرها على الأصابع، تماماً كما خطرت في حلمي فأيقظتني والكون في سبات، أيقظتني, كما الشمس تحيي عشبة داهمها صقيع الليل، يسري يخضورها الدافئ فيّ, وأنا المبتردة بالوحشة والفقد، ندهت إليّ بصوتها الحريري الوادع، فصحوت من غفوة لم تأخذني في مسارب النوم طويلاً, مددت يدي لأحتضن طيفها، تضيئني ببهائها ضوءاً من حنين واشتياق. رنَتْ إليّ بعينين تفيضان بالحنان الذي لازال يكتنف روحي، أستنجد به في غربة أيامي.. تحدّثتْ إليّ, فتدفّق كلامها غديراً من الوداد، نشيداً ملأ ملكوتي، جليل الوقع غامر الدفء، فتح نافذة صغيرة تطلّ على قلبي، تمسح بيدها على وجهي, فتسري برقّتها على روحي بريقاً يضيء سجاياي، ظلال طيفها تناجي مسمعي فأغني أسرارها، تغمرني بموسيقا ابتسامتها، تبدّى طيفها أمامي كظلال رمادية كلما مددت إليها يدي ابتعدت في ضباب سحابة الوقت، فأرى نفسي غارقة في سديمها الفضي مبعثرة بيني وبين احتياجي إليها، أتمسّك بطيفها، متقافزة وراءها كطفلة تطارد فراشة الربيع الملونة, فلا التعب يهمّها, ولا الأشواك تخدش قدميها. أهيم في الحلم, ألاحق طيفها الهارب مني، يسود عطرها في روحي فأتبع الضوع وأحاول احتضان الطيف المخبّأ في ألق الدفء, يتلوى خافراً ثم يستكين مفعماً بالحب، مضاء بالحنان، أشد إليّ مساماته ونبضه، أشعر حرارته وأنثني إليه كما غصن ناء بتفاحه على غصن، وكما غطاء يدثر الغافي في ابتراد الأماسي، أضمّها إلى قلبي تماماً, فيسدل الحلم الغبطة على روحي وتخفت استضاءات النجوم فأهمي بروحي على صدرها الندي وفجأة أصحو.

<     <     <

وقفت أمام مرآتها تستطلع آثار الزمن على وجهها، تقرأ الخطوط والتجاعيد المرسومة عليه بدقة، خطوطاً تحكي حكاية عمرها الحقيقية، نصحها كثيرون أن تسعى لمحوها، وتستعيد زمناً ضاع منها.. تمعّنت في المرآة ملياً تستقرىء خبايا روحها، وتبثّها تداعياتها المربكة، كيف تستعيد الزمن الذي دفعت ثمنه من عمرها وحياتها، وكيف لها أن تنجّر وراء هذه النصائح وهي التي سعت دائماً أن تكون هي “هي” بعيداً عن أي تجميل أو تزويق، ويكون صدقها مع ذاتها ومع الآخرين مبدأها الذي تعلّمته مع أبجديتها الأولى، وجعلته عنواناً لرسالتها في الحياة.

كيف لها أن تغيّر ملامح عمر، وفي كل خلية من جسدها ندبة تركتها الحياة، لتكون زوادتها في سني عمرها، هل للمرآة أن تحدثّنا عن حالنا، عن أيامنا، هل يمكن أن تكذب علينا، هل يمكن أن نكون صادقين مع أنفسنا أمامها، فإذا كنا نتحايل على المرايا العاكسة لصورتنا، كيف لنا أن نهرب من مرايا أرواحنا التي من خلالها نتعرّف إلى حالتنا، تلك المرايا هي مرايا صدقنا مع محيطنا الذي مهما ابتعدنا عنه يبقى يلاحقنا.

<     <     <

كتب لها: عطرك الذي يشاركني أحلامي ويرسمها ما عاد يفارق مسامي.. تتبدين لي حزمة ضوء متألق في امتداد ساكن للظلمة.. كوريقة خضراء أينعت مرة على غصن غابة من شوك ويباس، كعصفورة من روح واختلاجات تحرك سكون الهواء والأنحاء.. تتبدين لي ملاكاً من النور والرغبات يحط على قلبي فلا أجرؤ أن ألامسه كي لا يطير.. أحاول أن افتح شراييني له شركاً وعلى حين غبطة ألمه فيّ وأغلق كل منافذي ثم أجعل من كل أجزائي له فضاء.. لا أستطيع أن أنسى ابتسامات تغير مسارات الشمس وتوقف الأزمان وتلغي الأمكنة.. تهطل غيثاً في الصيف وتولع الربيع في غرفة.. أنت من تحمل الأفياء في حقيبتها، ومن بين أصابعها يهل القمر.. أنت من أرمي قلبي في حضنها تهدهده كطفل بكى طويلاً قبل أن يهده الدمع ويغفو.. كريح عبثت طويلا بالماء والتراب قبل أن تلتقي صفصافاً يهدئ روعها.. أحسك ظلي وانعكاس وجهي على مرآة.. أحسك طيفي الذي لا يغادرني بعيداً.. أحسك في مجرى الدم مني.. أحسك قلبي وروحي.. أحسك أنك.. أنا.