تفتّت المجتمع الأمريكي.. الفردية تعزز النزعات الانغلاقية
علي اليوسف
بات سائداً بين النخب السياسية الأمريكية أن تفكك الولايات المتحدة أصبح أمراً لا مفر منه، حتى أن هناك من يجزم أن قدر الولايات المتحدة قد لا يختلف عن قدر الاتحاد السوفيتي. هذا التفكك ليس بالضرورة أن يكون في المستقبل البعيد بل ربما في المدى المنظور، وهذه وجهة نظر بدأ ترويجها في الولايات المتحدة نفسها.
خلال السنوات الماضية أصبح تماسك الولايات المتحدة موضوع نقاش لدى كثير من النخب السياسية والثقافية، وهو الأمر الذي ركزت عليه القاضي السابق في المحكمة العليا ساندرا دي أوكونور (أول امرأة تتولى تلك المحكمة والتي مازالت تحافظ إلى حد كبير على مصداقيتها) خلال الحلقات النقاشية التي جرت في هذا الصدد في واشنطن بمشاركة عدد من الشخصيات المرموقة. تقول أوكونور: “وصل التنافر والتناحر بين الأميركيين إلى درجات عالية لم تشهده الولايات المتحدة على مدى تاريخها”. وبالنظر عميقاً في خلفيات هذا التناحر يتبين السبب أنه نتيجة دور الفردية المتجذّرة في كل أميركي وإن كان على حساب فقدان احترام الرأي الآخر.
هناك عوامل عديدة أخرى تساهم في تفكيك أواصر المجتمع الأميركي، ومنها هشاشة الاقتصاد وتداعياته السياسية والاجتماعية والثقافية. ومن أهم تلك التداعيات هي ظاهرة عسكرة المجتمع الأميركي التي ارتفعت معدلاتها نتيجة لتزايد الفجوات بين الطبقات الاجتماعية والنزعات الانغلاقية داخلها. وفي هذا الشأن أعدّ أستاذ علم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز “وليام دومهوف” دراسة أوضح فيها أن الثروة في الولايات المتحدة تتركز بيد أقل من واحد بالمائة من السكّان، وهذه الطبقات الثرية تعيش في مجمّعات تحميها شركات أمنية خاصة، وخلف أسوار ورقابة الكترونية، ولا تختلط مع سائر شرائح المجتمع. وهذه الفجوة المتزايدة تتلازم مع تكاثر حملة السلاح في الولايات المتحدة، خاصةً أن دستور الولايات المتحدة يضمن حمل السلاح لجميع مواطنيه وأن أقوى لوبي في الولايات المتحدة هو الاتحاد الوطني للسلاح (National Rifle Association). ولعل مبرر هذه المادة في الدستور الأمريكي هي إعطاء المواطن الأميركي المرتبة المعنوية العالية للقوات المسلّحة الأميركية، حتى بات هاجس الأمن مسيطراً على العقل الأميركي.
حتى الآن لا يوجد بوادر واضحة الملامح للانفجار، وهذا بطبيعة الحال يعود إلى المدى الذي وصل إليه تفتّت المجتمع الأميركي تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة. هذه الأزمات الاجتماعية تكمن أسبابها في تفكيك أسس دولة الرعاية عبر مراجعة التزامات الدولة المركزية وحتى التزامات الولايات تجاه المواطنين في تأمين الرعاية الصحية والتعويض عن البطالة وعن نهاية الخدمة.
وهذه الأمور مجتمعة ساهمت في صعود الإعلام البديل المناهض لسياسات الحكومة المركزية كالمدوّنات في الشبكة العنكبوتية، والتواصل عبر الفيسبوك والتويتر، وهي ساهمت بطريقة أو بأخرى في تكوين رأي عام مضاد تبلور في إقامة ما يُسمّى بـ “حزب الشاي” الذي يضم الغاضبين من سياسات الإنفاق المفرطة للدولة الاتحادية وما تسببه من هدر لأموال المكلّفين الذين يدفعون الضرائب، وهو الشيء الذي عزز تنامي الشعور الغاضب تجاه الحكومة الاتحادية وإنفاقها وهو ما قد يساهم في تنمية النزعات الانفصالية في عدد من الولايات الأميركية، وعلى سبيل المثال في عام 2008 كتب المرشح الجمهوري للرئاسة النائب “رون بول” في مدوّنته على الشبكة العنكبوتية أنه يحق للولايات الانفصال عن الدولة الاتحادية، كما هدّد حاكم ولاية تكساس “ريك بري” أكثر من مرة بالانفصال إن لم تكف الحكومة الاتحادية عن التدخّل بشؤون الولايات. وهناك بعض استطلاعات الرأي العام تفيد أن 21 بالمائة من الأميركيين يعتبرون أنه يحق للولايات الانفصال إذا ما اقتضت مصلحتها بذلك، أي أن الوحدة فعل تعاقدي يمكن إلغاءه في أي لحظة أسوة بالعقود الأخرى! وهناك الكثير الكثير عن هذا النوع من المزاج الأميركي في تلك المدوّنات الكثيرة جداً.
يضاف إلى تنامي ذلك الشعور أو الرغبة بالانفصال تراجع الرابطة القومية المبنية ليس على تاريخ مشترك بل على المصلحة المشتركة وخاصة ذلك الوهم الكبير المُسمّى بـ “الحلم الأميركي”. وضعف الرابطة القومية أو الوطنية يعود من بين عدة أسباب إلى نظرة الأميركيين للتاريخ، لأن الدولة الأميركية في الأساس هي فصل من تاريخ أوروبا وحروبها المدمّرة، وهنا يكون للتاريخ مدلول سلبي، إذ كيف يمكن للمواطن الأميركي أن ينظر إلى تاريخ بلده المبني على الإبادات الجماعية للشعوب القاطنة في القارة، وإلى استعباد الزنوج من إفريقيا لبناء وتشغيل مزارعهم، وإلى استغلال الصينيين في بناء سكك الحديد إلاّ بالريبة والخجل؟
يشير الدكتور اسكندر عبد النور، الأستاذ المحاضر في الجامعات الكندية، في دراسة حول العقل الأنغلوسكسوني أن هذا العقل يعتمد الذرائعية والنزعة التفكيكية والتركيز على الجزئيات، وأن النظرة الشاملة للأمور غائبة عنه وأن التوجه المعرفي لذلك العقل غير عقلاني ويحبّذ الروحانيات. لذلك نرى تعدّد الكنائس في الولايات المتحدة نوعاً وكمّاً وكأن تعدّدها كفّارة للخطيئة الجماعية! كما أن الارتكاز على العهد القديم في تحديد سلّم القيم وإن تناقض مع العلم يؤكد حالة الارتباك الفكري والروحي. فالرئيس بوش وفريق كبير من الجمهوريين المنتمين إلى الفئات التبشيرية يؤمنون بنظرية الخلق كما جاء في العهد القديم وينبذون النظرية العلمية لتكوين العالم كما أنهم ينبذون نظرية التطوّر. على كل حال اللجوء إلى الروحانيات هو بديل عن الرابطة القومية والوطنية فمن لا يؤمن معهم ليس منهم!
بالإضافة إلى ذلك هناك تحوّلات اجتماعية حاصلة قد تؤدي إلى تغيير الخارطة الديمغرافية في الولايات المتحدة. ووفقاً للإحصاءات التي نشرتها السلطات الأميركية فإن معدّل النمو السكاني في تراجع، أي أن الولايات المتحدة دخلت مرحلة الشيخوخة ويعود ذلك الأمر إلى تدنّي خصوبة المرأة إلى أقل من 2.1 بالمائة وهو الحد الأدنى لتجديد عدد السكان وذلك وفقاً لآخر إحصاءات مكتب تعداد السكان الأميركي (2011) والتعويض عن النقص في الزيادة الطبيعية للسكان هو في الهجرة الوافدة إلى الولايات المتحدة. في هذا السياق نجد أن معظم ولايات الجنوب الغربي للولايات المتحدة شهدت هجرة وافدة من أصول لاتينية (أو اسبانية) خاصة في الولايات الكبرى تكساس، وأريزونا، ونيو مكسيكو، وكولورادو، وجنوب كاليفورنيا. وتشير الإحصاءات أن سكان المدن الكبرى في تلك الولايات أن السكان المنحدرين من أصول اسبانية سيصبحون الأكثرية قبل نهاية العقد، كما أن المدن والقرى الحدودية مع المكسيك شهدت تراجع اللغة الإنكليزية لمصلحة اللغة الإسبانية.
هذا التحول الديمغرافي جعل صامويل هنتنغتون، صاحب نظرية صراع الحضارات، يراجع تحذيره من خطر المواجهة مع الحضارة الإسلامية حيث قال إن الخطر الذي يهدد الولايات المتحدة ليس الصراع مع حضارات أخرى بل فقدان الهوية الأنغلوسكسونية البيضاء “البروتستانتية”. كلام هنتنغتون لا يخلو من النزعة العنصرية خاصة أن تاريخ الولايات المتحدة حافل بالصراعات الدامية مع الجاليات “الكاثوليكية” في القرن التاسع عشر. ولعل الرئيس الكاثوليكي الوحيد الذي اخترق الحصار الأنغلوسكسوني هو جون كنيدي الذي اغتيل قبل نهاية ولايته وأن المرشح الأكثر حظاً من بعده كان جون كيري في مواجهة جورج بوش في معركة إعادة انتخاب الأخير. غير أن معسكر بوش لجأ إلى أساليب ملتوية لإقصاء كيري عن الرئاسة. كل ذلك يدّل أن الولايات المتحدة دخلت مرحلة التناقض الاجتماعي الحاد إلى السجال الحاصل حول الهجرة الوافدة الذي يعززه ترامب حالياً.
وليس الخطر الديموغرافي هو وحده من يهدد بتفكك الولايات المتحدة، إذ أن هناك عاملاً مهما لهذا التفكك وهو الأسرة. تشير الإحصاءات أن أكثر من 51 بالمائة من الأسر الأميركية تفتقد إلى وجود الأبوين أي أن الأسرة الأميركية اليوم تتكوّن من إما الأم (وهذا أكثر الحالات) أو من أب دون وجود الشريك الآخر. فالطفل ينشأ في بيئة لا يعرف وجود الوالدين والتداعيات لذلك الأمر كبيرة حيث تصبح الروابط العائلية الأساسية غير ذي أهمية. وهنا باتت ثقافة العنف المكوّن الأساسي لشخصية الأميركي، وهناك دراسات عديدة حول ثقافة العنف وليست الحوادث الدرامية لإقدام تلاميذ على قتل زملائهم إلا خير دليل على تأثير ثقافة العنف في تكوين الشخصية الأميركية. ما يعني أنه مع عسكرة المجتمع الأميركي، وحمل السلاح، والنزعة التمرّدية على السلطة المركزية لأسباب تاريخية وحاضرة، وتأليه ثقافة العنف، والتراجع الاقتصادي والاجتماعي، وتنمية الغرائز العنصرية البشعة كل تلك الأسباب تشكّل عناصر تفجير وتفتيت المجتمع الأميركي التي تقترب من نقطة الانفجار بوتيرة متسارعة.