الآخـــــــرون هــــــــم الجحيــــــــــم
في الحروب وما يليها من ويلات ومآسٍ، وفي المنعطفات التاريخيّة وما تفرزه من تغيّرات جوهريّة في بنية الوعي المجتمعيّ والفرديّ، تُفرض معادلات واقع جديد يتطلّب سلوكاً مغايراً لدى الناس عموماً ولدى النّخبة المثقّفة خصوصاً باعتبارها من يعوّل عليه في قيادة الوعي التّغييري الجديد. هذا ما حدث عند نهاية الحرب العالميّة الثانية، وما يجب أن يحدث في مجتمعاتنا العربيّة بعد مجازر الرّبيع العربي التي كانت بمثابة حرب عالميّة ثالثة أكثر وحشيّة من سابقاتها، اشتركت فيها معظم دول العالم لتصفّية حساباتها على أرضنا، كلّ حسب موقعه وتأثيره في السّاحة الدّوليّة، سواء بشكلٍ مباشر أو بالتّبعيّة لقوّة عالميّة أو إقليميّة عظمى، حرب مختلفة اعتمدت قوّة الصّورة والميديا شّكلاً ومضموناً، بأدوات جديدة ووكلاء جدد، ما أوقع الكثير من الخراب في الأرواح والأوطان والمجتمعات والجغرافيا، والذي يحتاج لعقودٍ طويلة من الزمن لتلتئم جراحه على الصّعيد الفرديّ والمجتمعيّ. المطلوب ببساطة وقفة تأمّل تفكيكي نقديّ مع الذّات، أفراداً ومؤسّسات، هي أشبه بصحوة معرفيّة علميّة يُسترجع فيها كلّ ما حدث، وتقرأ الأسباب والمقدّمات التي أدّتْ إلى المآلات والنتائج الكارثيّة التي نعيشها الآن، يجب إعادة ترتيب أوليّات وأفكار النهّضة وترسيخ ركائز جديدة للهوية المجتمعيّة والتراثيّة، والتجرؤ على تلك الأسس العاطفيّة التي بنيت عليها أفكار المنظّرين الأوائل، وتأسّست على أرضيّتها منهجيّات الأحزاب والشعارات العريضة الغامضة المرفوعة، في لحظات المدّ والجزر التي عاشتها مجتمعاتنا العربية بعد الاستقلال الشّكلي الذي نعمت به. يجب خلخلة اليقينيات والثوابت القارّة في الأذهان والانفتاح على العصر قبل أن يطحننا العصر بماكينته عالية التّطوّر. لقد وعى مثقفو وأدباء أوروبا حجم مأساة مجتمعاتهم حين رأوا الخراب والدمار يعمّان كلّ شيء. فبدؤوا بعملية بحث وتقصٍّ عميقين عن معنى الإنسان وهويّته ووجوده المقلق في هذا الكون القائم على العداوات والمصالح المتناحرة، لتبرز بعدها معالم الفكر الوجودي بالظهور. هذا الفكر الذي ظهر بقوّة ليتصدّى لمشكلات الإنسان الجوهريّة المرتبطة بالموت والحياة والمعاناة والاغتراب والتمزّق والبحث عن الكرامة الإنسانيّة المهدورة في مرحلة تاريخيّة تخلخلت فيها كلّ هذه المفاهيم وغدت مزقاً في مهبّ الرّيح. لقد ركّزت التّجربة الوجودية على الإنسان بوجوده البشري وتجربته الحيّة بوصفها الوسيلة المثلى التي يعرف الإنسان العالم عن طريقها، وبوصفها ثورة حقيقيّة على نظريّة المعرفة. وقد برز من ضمن هؤلاء المفكّرين الكبار الذين حملوا لواء التغيير سلوكاً وعملاً، المفكّر والأديب “جان بول سارتر” الذي اختار أن ينتمي إلى قضايا الشعب والوطن وهموم المثقفين وتطلعاتهم إلى الحريّة والعدالة. وهذا ما تجلّى في أعماله الروائيّة والمسرحيّة ودراساته الفلسفيّة والأدبيّة التي كتبها آنذاك وحمّلها آراءه وأفكاره الفلسفيّة، فكانت روايته “الغثيان” الصّادرة قبل الحرب العالميّة الثّانية أولى نتاجاته الفلسفيّة المشبعة بخلاصة أفكاره الوجوديّة، ماعدا السّياسيّة والتي ينتقل فيها من فكرة عرضيّة الوجود التي عرفها بصباه إلى القناعة بتفاهة الوجود الإنساني بأسره. كما عالجت الرواية فكرة الحريّة ومشكلة سوء الطويّة، وسلوك الشّخصيّة البرجوازيّة، وفينومينولوجيّة الإدراك، وطبيعة الفكر، ومشكلة الذاكرة والفنّ. وفي روايته “دروب الحريّة” التي بقي جزؤها الرابع بلا إنجاز، هاجم العقليّة البرجوازيّة الفرنسيّة الحاكمة التي أدّت لهزيمة فرنسا في الحرب العالميّة الثانية أمام ألمانيا، وقد أسر “سارتر” بسببِ مواقفه المناهضة للألمان النّازيين، ووضع في معتقل “تراف” الألماني الذي صار يعمل فيه كاتباً ومخرجاً وممثلاً مسرحيّاً مع مجموعة من الفنانين المعتقلين. وهناك ولدت مسرحيُّته “باريونا أو ابن الرعد” التي بدا موضوعها الخارجي وكأنّه يتعلّق بصراع اليهود والرومان، بينما هو يعكس في الحقيقة صورة الواقع الفرنسي تحت الاحتلال الألماني. وبعد خروج “سارتر” من المعتقل، عاد إلى باريس ليعدّ الخطط مع أصدقائه لمقاومة الغازين. وصدف أن تزامنتْ ولادة كتابه الفلسفي “الوجود والعدم” مع ولادة مسرحيّته “الذّباب” التي استغرب الكثيرون كيف سمح النازيّون بعرضها على مسرح مدينة باريس المحتلة. وفسّر البعض ذلك بأنّ العقل الألماني وافق على عرضها لأنّه رأى فيها انتصاراً لمدرسة فلسفيّة ألمانيّة هي المدرسة الظاهراتيّة لـمؤسّسها الفيلسوف أدموند هوسرل التي تأثّر بها “سارتر” وقد نقد من خلالها العقليّة البرجوازيّة الفرنسيّة الحاكمة وفسادها وسوء إدارتها، موضّحاً قناعاته وإيمانه بالعمل الحرّ الملتزم بتحرير الإنسان من فساد هذا العالم وانحلاله ومعتقداته الوهميّة التي تقيد حريّة البشر وتوجّهاتهم، كما لم يخفِ قناعاته الإلحاديّة أيضاً، حيث ينهزم الإله “جوبيتر” ويضعف متراجعاً عن أداء مهماته ووظائفه أمام حريّة الإنسان التي يعبر عنها من خلال شخصيّة “أورست” التي تتصدّى للملك “إيجيست”. أمّا البعد السياسي في المسرحيّة فيرتبط بفكرة المقاومة الفرنسيّة للمحتلّ الألماني. وفي مسرحيّة “موتى بلا قبور” بالغ “سارتر” في إظهار الإنسان بموقع الجلاد للآخرين حدّ الوحشيّة، ليعمّق الإحساس لدى الفرنسيين بسوء ممارسات المحتلّ. وفي مسرحيّة “الأبواب المقفلة” عرض “سارتر” علاقة الإنسان بالآخر حيث أنّ كلّ واحد يمكن أن يكون جلّاداً للآخر. ليبرز مقولته الشّهيرة القائلة: “الجحيم هم الآخرون” حين يستأثرون بكلّ شيء. الجحيم الذي يعكس صورة لمدى العذاب الجهنّمي الذي نلقاه في حياتنا على الأرض، سواء عندما نواجه الآخرين المستذئبين أو عندما ننظر في مرآتنا الدّاخليّة.
أوس أحمد أسعد