دراساتصحيفة البعث

الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة ليست تكاملاً “سطحياً”

عناية ناصر

تعد الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP) إنجازاً غير عادي وسط الجغرافيا السياسية العدوانية، والحروب التجارية المدمرة، وتسارع الوباء العالمي. إنها أيضاً قفزة نحو مستقبل أفضل.

في حزيران الماضي، أكد وزراء دول مجموعة “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” عزمهم على توقيع اتفاقية التجارة الحرة وسط رياح معاكسة غير مسبوقة في التجارة العالمية والاستثمار وسلاسل التوريد. فبعد ما يقرب من عقد من المحادثات، تستعد 15 دولة لتوقيع أكبر اتفاقية للتجارة الحرة في العالم خلال قمة الآسيان.
ومن المتوقع أن تزيد هذه الشراكة من التكامل التجاري بين دول الآسيان العشر وزعماء شرق آسيا (الصين واليابان وكوريا الجنوبية) وأوقيانوسيا (أستراليا ونيوزيلندا). المثير للدهشة أن الهند انسحبت من محادثات “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” في أواخر العام الماضي، في أعقاب توجه رئيس الوزراء مودي المتزايد نحو مبادرة المحيطين الهندي والهادئ التي تقودها الولايات المتحدة، ومع ذلك، لا يزال بإمكان الهند الانضمام إلى المحادثات في وقت لاحق، إذا اختارت ذلك.
حتى بدون الهند، فإن القوة الاقتصادية المشتركة للمشاركين في “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” تبلغ تقريباً ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي ونتيجة لذلك، سيكون لها تداعيات عالمية كبيرة.

لماذا ينجح “التكامل الضحل” في الأوقات المضطربة

في السنوات الأربع الماضية  أثرت أحادية “أمريكا أولاً” على جميع الصفقات التجارية متعددة الأطراف، وهو ما يدفع “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” لتكثيف التكامل التجاري متعدد الأطراف في آسيا المنطقة الأكثر ديناميكية في العالم.
وحتى وقت قريب، اعتبر نقاد اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، لا سيما في واشنطن وبروكسل، بأن الاتفاقية تمثل تكاملاً “سطحياً” نظراً لأن متطلباتها ليست صارمة مثل الشراكة عبر المحيط الهادئ القديمة (TPP)، التي روجت لها إدارة أوباما. ومع ذلك، كانت تلك الشروط المسبقة الصارمة تحديداً هي التي جعلت الشراكة عبر المحيط الهادئ هدفاً لمجموعة من الجماعات المناهضة للعولمة، بما في ذلك الرئيس ترامب الذي دفنها عند وصوله إلى البيت الأبيض.

في نهاية المطاف، أعطت الشراكة عبر المحيط الهادئ الأولوية لاحتياجات التكامل لرأس المال الدولي على احتياجات الحكومات الوطنية، وربما لهذا السبب تم التفاوض عليها في سرية مثيرة للجدل، حيث تضمنت فقرات غامضة تستند إلى الجغرافيا السياسية بدلاً من التجارة. إجمالاً ، وافقت الدول الـ 11 المتبقية في الشراكة عبر المحيط الهادئ على “اتفاقية شاملة للشراكة عبر المحيط الهادئ” (CPTPP) والتي هي نفسها إلى حد كبير كما كانت من قبل، ولكنها تتجاهل 20 بنداً كانت الولايات المتحدة قد أدرجتها في الشراكة عبر المحيط الهادئ الأصلية. وعلى عكس ما يدعى، فإن التكامل “الضحل” يسير بشكل أفضل مع احتياجات التكامل في آسيا الناشئة، حيث تلعب الحكومات دوراً حاسماً في التنمية الاقتصادية، وتعتبر فكرة السيادة الوطنية أمراً حيوياً. أخيراً، قد تكون الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة أكثر انسجاماً مع المشهد الدولي الجديد الذي طغت عليه الحمائية والحروب الجمركية، حيث منذ الركود الكبير 2007-2009، اضطرت الكتل الإقليمية التي تطمح إلى تكامل وتجانس عميقين، ولا سيما منطقة اليورو، إلى اتخاذ خطوات إلى الوراء، في حين احتفظت الكتل الإقليمية التي تم بناؤها على أساس التكامل الضحل وعدم التجانس، بما في ذلك رابطة دول جنوب شرق آسيا، بقدرة أكبر على المناورة الإستراتيجية وسط الرياح المعاكسة الدولية.

أهداف اقتصادية

من وجهة نظر الآسيان، تعد الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة أمراً حيوياً لتطوير التكامل الإقليمي التدريجي، لا سيما إذا اختارت الاقتصادات المتقدمة مزيداً من الحمائية والحروب التجارية الجديدة في المستقبل، كما يمكن أن تكون بمثابة منصة نحو تكامل اقتصادي عالمي أكبر. ومن منظور المشاركين ذوي الدخل المرتفع – اليابان وأستراليا ونيوزيلندا – تعتبر الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة أمراً حيوياً للمشاركة في النمو الإقليمي. في الوقت الذي يطارد الركود الاقتصادات المتقدمة، لا يمكن للمعاهدة أن تعوض مثل هذه الاتجاهات العلمانية، لكنها يمكن أن تعمل كموازن لها. ومن المتوقع أن تزيل الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة التعريفات الجمركية على 86٪ من صادرات اليابان إلى الصين.

في الواقع، يمكن لـ الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة إلغاء 90 ٪ من الرسوم الجمركية على الواردات بين الموقعين عليها في غضون 20 عاماً من دخولها حيز التنفيذ، والذي يمكن أن يكون بحلول وقت مبكر من العام المقبل، كما ستسعى إلى وضع قواعد مشتركة للتجارة الإلكترونية والتجارة والملكية الفكرية.

الصين تدعم التكامل العالمي والإقليمي

على عكس جميع الدول الكبرى الأخرى، كان الاقتصاد الصيني ينتعش منذ أواخر الربيع. وعلى الرغم من حروب ترامب التجارية، فقد تحسن نمو الصادرات الصينية مرة أخرى في أيلول الماضي إلى ما يقرب من 10 في المائة على أساس سنوي، و يشير انتعاش نمو الواردات إلى أكثر من 13 في المائة بعد شهرين متتاليين من الانكماش إلى زيادة الثقة. وعلى الرغم من الحروب التجارية بين الولايات المتحدة والصين والحمائية المتزايدة، تدعم الصين التكامل العالمي والإقليمي، وهذا نتيجة طبيعية لتطورها الاقتصادي السريع. فمثلما أدى صعود اليابان في حقبة ما بعد الحرب إلى استثماراتها عبر الحدود في المنطقة، فإن ظهور الصين له تأثير مماثل ولكنه أوسع، إذ تعتبر الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة مهمة للصين ولكنها ليست المكان الإقليمي الرئيسي الوحيد لاقتصادها الضخم. ومع تضاؤل ​​الآفاق العالمية للتجارة الدولية، كانت الصين تضغط من أجل التمايز الإقليمي في الداخل منطقة خليج قوانغدونغ – هونغ كونغ – ماكاو الكبرى، وعلى الصعيد الدولي “مبادرة الحزام والطريق”. ومع ذلك، زادت التجارة الثنائية للصين مع الآسيان بشكل مطرد في العقد أو العقدين الماضيين، وشكلت ما يقرب من 15٪ من إجمالي حجم التجارة الصينية، وهو ما يتجاوز تجارتها مع الولايات المتحدة (11٪) والاتحاد الأوروبي (14٪) على التوالي.

مستقبل مشترك للقرن الآسيوي

نظراً لقوتها التجارية الدولية الكبيرة، سيكون لـ الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة أيضاً تأثير عالمي، حيث تمثل هذه الاقتصادات مجتمعة 2.2 مليار شخص (30٪ من الإجمالي العالمي) وناتج محلي إجمالي يبلغ 26 تريليون دولار (حوالي 30٪ من الإجمالي). والأهم من ذلك أنها تشير إلى تفاؤل أكبر بعد أربع سنوات من التراجع العالمي. وفي هذا الشأن،  يقول رئيس الوزراء الصيني لي كه تشيانغ إن “توقيع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” سيبعث بإشارة واضحة وقوية وإيجابية لتعزيز التكامل الإقليمي والعولمة الاقتصادية “. أما على الصعيد العملي، يمكن أن يُنسب نصف القوة العالمية لـ الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة إلى الصين، في حين أن النصف الآخر يشمل الآسيان والاقتصادات ذات الدخل المرتفع في اليابان وأستراليا ونيوزيلندا. وإذا استمر المشاركون في الازدهار، فسوف يزداد الدور الاقتصادي للصين والآسيان بشكل أسرع نسبياً بمرور الوقت. وحتى بافتراض وجود ظروف سلمية ومستقرة نسبياً، سيتجاوز حجم الاقتصاد الصيني حجم الاقتصاد الأمريكي بحلول أواخر عام 2020، في حين ستزداد القوة الاقتصادية لرابطة دول جنوب شرق آسيا بالتوازي. إن هذا الإحساس القوي بمستقبل مشترك يمكن أن يصنع القرن الآسيوي الذي طال انتظاره.