“أبي العلاء المعري شاعراً وفيلسوفاً”.. في ندوة
يحتفي معرض الكتاب في دورته الحالية بالشاعر والفيلسوف أبي العلاء المعري الذي حمل شعره تيارات فكرية فلسفية سبقت عصره، باختياره شخصية المعرض لهذا العام بالإضافة إلى عرض بعض المخطوطات التي تحتفظ بها مكتبة الأسد حوله، وضمن الفعاليات المرافقة لمعرض الكتاب أقامت الهيئة العامة السورية للكتاب أمس ندوة في مكتبة الأسد حملت عنوان “أبي العلاء المعري شاعراً وفيلسوفاً” أدارها الأديب سمير عدنان المطرود الذي رأى أن المعري ظلم من قبل النقاد القدامى والمعاصرين، فهم كانوا ينظرون إلى معتقده وليس إلى أدبه فهو كان ينادي بإمامة العقل وتحكيمه في كل شيء ولذلك أسيء فهمه.
تفرد المعري
البداية كانت مع د. محمد عبد الله قاسم الذي تحدث حول: “مقيدات مختلفة الفنون تفرد بها أبو العلاء” قائلاً: لم تنجب الحضارة العربية في العصور الحالية من يفوق أبا العلاء في أصالة الرأي ونفاذ البصيرة وصدق النظرة وروعة الخيال وإحكام القول وسلامة التعبير والإحاطة بالعربية وعلومها، ولم يشغل النقاد والباحثين أديب عالم وفيلسوف مفكر كما شغلهم رهين المحبسين، فقد قاربت مصادر دراسته على نحو 350 مصدراً وتجاوزت كتبه نحواً من السبعين، لافتاً إلى أن أبا العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري ولد في معرة النعمان سنة 363هجري، وأصيب بالعمى بسبب الجدري أول سنة سبع وستين وكان متوقد الخاطر على غاية من الذكاء. ورأى د.قاسم أن العميان أصح الناس حفظاً وأوعاهم وأذكاهم والسبب في ذلك عدم تشتت الباصرة في المغازي والمسالك، وقد قالوا كان بالمشرق لغوي وبالمغرب لغوي ولم يكن لهما ثالث وهما أبو العلاء وابن سيده، كما قال التبريزي: ما أعرف أن العرب نطقت بكلمة ولم يعرفها أبو العلاء، ومن الغريب أن كثيراً من كلامه انتزعه من الأشياء القريبة التي لا يكترث بها غيره والتمس ما فيها من معان عالية واستعملها في أغراض ومقاصد بديعة كالحكمة والتشبيه حيث قال:
أحسن جواراً للفتاة وعدها
أخت السماك على دنو الدار
كتجاور العينين لن تتلاقيا
وحجاز بينهما قصير جدار
وذكر د. قاسم العديد من الأمثلة الشعرية الجميلة للمعري بالإضافة إلى بعض مقيدات أبي العلاء منها تأصيل لفظ الأستاذ فهي كلمة ليست بالعربية وإنما جرت عادتهم أن يقولوا للحاذق في الصنعة أستاذ، ولا يوجد ذلك في الشعر الجاهلي، وتأصيل لفظ لبانة واللبانة هي الحاجة وتأصيل لفظ الحمام ويراد به البيت الذي يحم فيه الماء أي يغلى، كما تحدث عن تفرد المعري في رواية الشعر ومعانيه والإعراب ونقد الكتب وفي اللغة وبدائع القول والمعارف والمجالس.
شاعر كل العصور
كما أوضح د. جهاد بكفلوني من خلال مداخلته “أبو العلاء المعري شاعر العصور كلها” أن المعري عندما كان يكتب القصيدة لم يكن يكتبها للعصر الذي عاش فيه إذ كان يستطيع بفكره الخلاق وشاعريته الفذة وإبحاره في الفكر الإنساني في عالم رحيب أن يصهر الزمن كله في بوتقة واحدة يذهب للماضي ويستحضره ومن ثم يدخله للحاضر وينتقل بهما للمستقبل البعيد ليصنع قصيدة لا تصلح للحظة التي كتبت فيها فحسب بل تمتد إلى اللانهاية، فهو دائماً يسبق عصره وعندما تقرأ لزومية من لزومياته تشعر أنه فرغ من كتابتها قبل ساعة أو ساعتين ولم يكتبها قبل ألف عام، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك أحدها قصيدة سميت رثاء الإنسانية قالها عندما توفي أحد الفقهاء الأحناف واستطاع أن يجمع فيها بين بعدين مهمين هما الزمان والمكان ليستخلص قصيدة خالدة، يقول فيها:
إن حزناً في ساعة الموت
أضعاف سرور في ساعة الميلاد
وبيّن د. بكفلوني أن المعري كان ينتقد الظواهر المرضية في عصره وهو لا ينتقدها كظاهرة آنية بل كظاهرة ممكن أن تكون في العصور المتتالية ونحن في هذا الزمن وجدنا شيوخاً لا يمتون للدين بصلة يصدرون فتاوى بقتل الشعب السوري الطيب بدعم خارجي ويقول فيهم المعري وفي أمثالهم:
تستروا بأمور من ديانتهم
وإنما دينهم دين الزناديق
نكذب العقل في تصديق كاذبهم
والعقل أولى بإكرام وتصديق
كما وذم المعري الدنيا وتكالب الناس عليها وسمى الدنيا بـ “أم الدفر” والدفر هو الرائحة الكريهة، كما وذم ذلك الإنسان المزدوج الذي يحظر على الآخرين شيئاً يبيحه لنفسه وما أكثر أولئك المزدوجين في حياتنا، وأضاف بكفلوني: نحن نقرأ شاعراً استطاع أن يدخل إلى كهف الزمن ويأتي بكم هائل من المصابيح ليسرجها دفعة واحدة فإذا الزمن مضاء من منبعه إلى مصبه وفي هذا البحر العميق استطاع المعري العظيم الغوص إلى الأعماق وأن يستخرج لنا أفضل وأجمل الجواهر، وما يزال المعري مغارة نعرف كلمة السر وبوسعنا قولها لتفتح لنا أبواب الكنوز ولكننا مازلنا كسالى أو نعتقد أننا عرفنا ما يكفينا.
لوردا فوزي